قلت:
فهذه الحجة مضمونها أن الفعل يمكن أن يكون واجب الوجود، فيجب أن يكون دائم الوجود؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان ممكن الوجود والعدم.
والمقصود هنا أنه يمكن دوام وجوده بغيره، فيجب دوام وجوده بغيره لا بنفسه؛ إذ لو لم يجب بنفسه ولا بغيره بل أمكن عدمه، لوجب أن يمكن عدمه دائما؛ إذ إمكان عدمه في حال دون حال مع تساوي الأحوال محال، وإمكان عدمه دائما ينافي وجوبه بنفسه أو بغيره في شيء من الأوقات، فإنه لو وجب موجودا في حال بنفسه أو بغيره، لم يكن ممكن العدم في حال وجوبه، وهو إذا كان موجودا كان بغيره فيكون واجبا بالغير، فإذا كان موجودا امتنع -في حال وجوده- أن يمكن عدمه، فإذا قدر أنه ممكن العدم دائما، بحيث لا يجب لا بنفسه ولا بغيره، امتنع أن يكون موجودا في شيء من الأحوال.
والتقدير أنه ممكن الوجود، بل ممكن دوام الوجود. وإمكان الوجود ينافي امتناع الوجود، فما أمكن وجوده دائما امتنع عدمه.
ونكتة الحجة أن ما أمكن وجوده دائما، يكون مع وجوده واجبا بغيره، فإن الممكن إن اقترن به ما يوجب وجوده، صار واجبا بغيره، وإن لم يقترن به ما يوجب وجوده، صار ممتنعا لغيره؛ إذ الممكن لا يحصل إلا عند المرجح التام الذي يوجب وجوده؛ إذ لو لم يجب معه لكان ممكنا، وإذا كان ممكنا لم يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح.
وهذا الموضع قد نازع فيه طوائف من
المعتزلة، وغيرهم من أهل الكلام. طائفة يقولون: إن القادر يرجح أحد المقدورين المتماثلين بلا
[ ص: 193 ] مرجح أصلا، كما يقول ذلك طوائف من
الجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم من أصناف المتكلمين.
وهؤلاء يقولون: عند وجود القدرة والداعي لا يجب الفعل، بل يكون جائز الوجود والعدم.
وطائفة من
المعتزلة الكرامية يقولون: بل عند وجود المرجح يكون الوجود راجحا على العدم من غير وجود. وهذا قول
محمود الخوارزمي، وابن الهيصم الكرامي وغيرهما.
والقول الثالث: هو قول طوائف من
أهل السنة والمعتزلة كأبي الحسين: أنه عند وجود القدرة التامة والداعي التام يجب وجود المقدور.
والقول الذي اختاره
محمود يقول أصحابه: إنه عند وجود المرجح يكون الممكن أولى بالوجود منه بالعدم، وإن لم ينته الترجيح إلى حد الوجوب. وجعلوا فعل القادر المختار من هذا الوجه.
وبهذا يناظرون الناس في مسألة القدر، ويناظرون الفلاسفة في مسألة حدوث العالم. لكن الناس بينوا فساد قولهم، وذلك أنه إذا حصل مرجح، وكان مع وجوده يمكن وجود الممكن ويمكن عدمه، فلا بد من ترجيح لأحدهما على الآخر.
فإن قيل: جانب الوجود: أقوى أو أضعف؟
قيل: قول القائل: أقوى، يريد به أنه مع هذه القوة يمكن وجوده وعدمه، أو لا بد من وجوده.
فإن قال بالثاني: ثبت وجوبه عند المرجح.
[ ص: 194 ]
وإن قال بالأول، قيل له: فإن كان مع القوة يمكن وجوده وعدمه، فلا بد من ترجيح، وإلا كان الممكن نوعين أو له حالان: حال يحصل فيها بغير مرجح، وحال لا يحصل فيها إلا بمرجح.
والممكن ليس له من نفسه وجود أصلا، بل وجوده ممكن، ولا يحصل إلا بغيره، فكل ما وصف بهذه الحقيقة، يمتنع أن يوجد إلا بغيره، فما دام ممكنا لا يوجد إلا بغيره. وذلك الغير إذا كان يمكن أن يفعل، ويمكن أن لا يفعل، كان فعله ممكنا. والممكن لا يحصل إلا بغيره.
وإذا قيل: الغير هو القادر، أو القادر المريد، أو نحو ذلك.
قيل: مجرد القادر المريد، إذا كان معه وجود الفعل تارة وعدمه الأخرى، كان ممكنا، فلا بد له من مرجح، وإلا فإذا قدر استواء الحال من كل وجه فلا يترجح، وإذا لم يكن ترجيح، لزم حصول الممكن بلا ترجيح مرجح، وهو ممتنع.
وهذا الموضع هو الذي أنكره من أنكره من أئمة السنة والحديث، ومن أئمة الفلاسفة أيضا، على من صار إليه من أهل الكلام:
المعتزلة، والكلابية كالأشعرية، وطائفة من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد وغيره من الأئمة. وهو أصل قول
nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب في مسألة القرآن، الذي أنكره عليه
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة. وهو أصل شبهة الفلاسفة في مناظرتهم لهؤلاء في قدم العالم، وقد بسط في موضعه.
وإذا كان الممكن نفسه إما واجبا بغيره، وإما ممتنعا لغيره، فما كان يمكن دوام وجوده كان مع وجوده واجب الدوام بغيره، فيمتنع أن
[ ص: 195 ] يكون حينئذ ممكن العدم والحال هذه، مع كونه واجب الدوام بغيره.
فكل ما أمكن وجوده بغيره وأمكن دوامه، امتنع مع وجوده عدمه، وامتنع مع عدمه وجوده، فإنه إذا لم يدم وجوده، لزم أن لا يكون هناك ما يقتضي وجوده، أو ما يقتضي وجوده في حال دون حال، فإن ممكن الوجود إنما يعدم لعدم مقتضيه، فالعدم الدائم عدم فيه مقتضى الوجود على سبيل الدوام، والعدم الحادث عدم فيه مقتضى الوجود في تلك الحال.
والمراد أنه عدم كمال المقتضى، لا أنه عدم كل شرط من شروط الاقتضاء، بل عدم بعض الشروط كاف في عدمه، وعدم المقتضى في حال دون حال، مع تماثل الأحوال، منتف، وعدمه دائما يوجب أنه يمتنع وجوده دائما، والتقدير أنه فرض إمكان وجوده دائما.
ومادة هذه الحجة مشاركة لمادة الحجة التي اعتمدوها في قدم العالم، وهي أن الحدوث بدون سبب الحدوث ممتنع، ووجود المقتضى التام في الأزل يستلزم وجود مقتضاه، فإن الأصل في ذلك أنه لا يتجدد شيء بدون سبب يقتضي التجدد.
فالمنازع لهم من أهل الكلام، من
المعتزلة والأشعرية ونحوهم، إما أن يقول: الفعل في الأزل ممتنع، كما قاله طوائف منهم. وإما أن يقول: هو ممكن لكن لم يحصل ما به يوجد، فكان عدمه لفوات شرط الاتحاد؛ إذ التقسيم العقلي يوجب أن يقال: الفعل في الأزل: إما ممكن وإما
[ ص: 196 ] ممتنع، وإذا كان ممكنا، فإما أن يحصل مجموع ما به يوجد، وإما أن لا يحصل.
فالتقدير الأول أنه ممتنع؛ لاستلزام تسلسل الحوادث. والثاني أنه وإن قدر إمكانه، لكن لم تتعلق به مشيئة الرب تعالى، أو قدرته، أو لم يحصل تعلق العلم بوجوده قبل ذلك الزمن، أو نحو ذلك مما لا يوجد الفعل إلا به.
فمن قال: إن دوام الفعل ممتنع، فقد أبطلوا قوله، كما ذكر. ومن قال: إنه ممكن، لكن لم يوجد تمام شرطه. قالوا له: فهو قبل ذلك كان ممتنعا، ثم صار ممكنا، بل موجودا مع تساوي الحالين، فيلزم الترجيح بلا مرجح.
وإذا قال: إنه ممكن وما به يحصل موجود. قالوا: فيلزم وجوده.
ولما ذكر
الرازي هذه الحجة قال: (عمدة المنكرين لهذا امتناع حوادث لا أول لها، وقد مضى القول فيه في باب الزمان، فلا نطول بذكره تطويلاتهم الخارجة عن الأصول).