الوجه الثاني: أن يقال: دوام فاعلية الرب تعالى ودوام الحوادث، يمكن معه أن تدوم الأفعال التي تقوم بالرب بمشيئته وقدرته، وتحدث شيئا بعد شيء، وأن تحدث حوادث منفصلة شيئا بعد شيء. وعلى كل من التقديرين فلا يكون شيء من العالم قديما، فلم قلتم: إن الأمر ليس كذلك، وإن كان ما ذكرتموه صحيحا؟ وإن كان باطلا فهو أبعد وأبعد.
فإن اعتذروا بأن واجب الوجود لا تقوم به الصفات والأفعال، كان الجواب من وجوه:
[ ص: 213 ] أحدها: أن قولكم في هذا أفسد من قولكم بدوام الحوادث، وحجتكم على ذلك في غاية الفساد.
فإن قلتم: هؤلاء المنازعون لنا من
المعتزلة والأشعرية وغيرهم يسلمون لنا هذا.
قيل لهم: هؤلاء إنما سلموا لكم امتناع قيام الأفعال المرادة المقدورة بذاته، بناء على امتناع قيام الحوادث به، وإنما منعوا ذلك؛ لأن ذلك يفضي إلى تعاقبها عليه، وإنما منعوا تعاقب الحوادث على القديم؛ لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها. فإن كان هذا القول فاسدا، لم يكن لهم دليل على نفي ذلك.
فيقولون لكم: هذا الدليل إن كان صحيحا بطل قولكم، ولزم أن الحوادث لها ابتداء، وإن كان باطلا بطل قولنا الذي بنينا عليه نفي الأفعال، وليس لكم على هذا التقدير أن تلزمونا بأن القديم لا تقوم به الحوادث بأنا إنما بنيناه على أصل يعتقدون فساده.
غاية ما في هذا الباب أنكم تلزمونا التناقض، وتقولون: يلزمكم: إما القول بدوام الحوادث، وإما القول بجواز قيامها بالقديم.
فنقول: إن كان القول بدوامها هو الحق قبلناه وتركنا ذلك، وكان في ذلك لنا مصلحتان: إحداهما: موافقة الأدلة العقلية التي ذكرتموها على ذلك. والثانية: موافقة النصوص الإلهية التي بدعنا بمخالفتها إخواننا المؤمنين.
[ ص: 214 ]
والقول الذي يجمع لنا موافقة العقل والنقل خير من أن نوافقكم على قدم الأفلاك ونفي صفات الله تعالى، فإن في هذا من الكفر المخالف للشرع، والفساد المخالف للعقل ما يتبين لمن نظر فيه، لا سيما والفلاسفة لا يمنعون قيام الحوادث والصفات بالقديم الأزلي، ولا كون الجسم قديما أزليا، بل يوجبون ذلك كله، ولا دليل لهم على قدم جسم معين كالأفلاك ونحوها.