وحقيقة ذلك أنه لا تكون نفسه إلا بنفسه، ولا تكون ذاته إلا بصفاته، ولا تكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى اسمها، وهذا حق، ولكن قول القائل: «إن هذا افتقار إلى غيره» تلبيس، فإن ذلك يشعر أنه مفتقر إلى ما هو منفصل عنه، وهذا باطل؛ لأنه قد تقدم أن لفظ «الغير» يراد به ما كان مفارقا له بوجود أو زمان أو مكان ويراد به ما أمكن العلم به دونه والصفة لا تسمى غيرا له بهذا المعنى، وأما بالمعنى الثاني فلا يمتنع أن يكون وجوده مشروطا بصفات، وأن يكون مستلزما لصفات، وإن سميت تلك الصفات غيرا فليس في إطلاق اللفظ ما يمنع صحة المعاني العقلية، سواء جاز إطلاق اللفظ أو لم يجز.
[ ص: 283 ]
وهؤلاء عمدوا إلى المعاني الصحيحة العقلية وأطلقوا عليها ألفاظا مجملة تتناول الباطل الممتنع، كالرافض الذي يسمي أهل السنة ناصبة، فيوهم أنهم نصبوا العداوة لأهل البيت رضي الله عنهم.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن
إثبات المعاني القائمة التي توصف بها الذات لا بد منه لكل عاقل، وأنه لا خروج عن ذلك: إلا بجحد وجود الإرادة، فقود هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى، وهذا منتهى الإلحاد، وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد، ولا مخلص من هذا إلا
بإثبات الصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وذلك أن نفاة الصفات من المتفلسفة ونحوهم يقولون: إن العاقل والمعقول والعقل، والعاشق والمعشوق والعشق، واللذة واللذيذ والملتذ: هو شيء واحد، وإنه موجود واجب له عناية، ويفسرون عنايته بعلمه أو عقله، ثم يقولون: وعلمه أو عقله هو ذاته، وقد يقولون: إنه حي عليم قدير مريد متكلم سميع بصير، ويقولون: إن ذلك كله شيء واحد، فإرادته عين قدرته، وقدرته عين علمه، وعلمه عين ذاته.
[ ص: 284 ]
وذلك أن من أصلهم: أنه ليس له صفة ثبوتية، بل صفاته: إما سلب، كقولهم: ليس بجسم ولا متحيز، وإما إضافة كقولهم: مبدأ وعلة، وإما مؤلف منهما كقولهم: عاقل ومعقول وعقل، ويعبرون عن هذه المعاني بعبارات هائلة، كقولهم: إنه ليس فيه كثرة كم، ولا كثرة كيف، أو إنه ليس له أجزاء حد، ولا أجزاء كم، أو أنه لا بد من إثباته موحدا توحيدا، منزها مقدسا عن المقولات العشر: عن الكم، والكيف، والأين، والوضع، والإضافة، ونحو ذلك.
ومضمون هذه العبارات وأمثالها نفي صفاته، وهم يسمون نفي الصفات توحيدا، وكذلك
المعتزلة ومن ضاهاهم من
الجهمية يسمون ذلك توحيدا.
وهم ابتدعوا هذا التعطيل الذي يسمونه توحيدا، وجعلوا اسم التوحيد واقعا على غير ما هو واقع عليه في دين المسلمين، فإن
التوحيد الذي بعث الله له رسله، وأنزل به كتبه، هو أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، ولا يجعل له ندا، كما قال تعالى:
قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين [الكافرون: 1-6] .
ومن تمام التوحيد أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه رسوله، ويصان ذلك عن التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل، كما قال تعالى:
قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [الإخلاص: 1-4] .
[ ص: 285 ]
ومن هنا ابتدع من ابتدع لمن اتبعه على نفي الصفات اسم «الموحدين» وهؤلاء منتهاهم أن يقولوا: هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، كما قاله طائفة منهم، أو بشرط نفي الأمور الثبوتية، كما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا وأتباعه، أو يقولون: هو الوجود المطلق لا بشرط، كما يقوله
القونوي وأمثاله.