الثالث: أن يقال: كل حادث من الحوادث المشهودة إما أن تكون مؤثريته حاصلة في الأزل، وإما ألا تكون. فإن كان الأول، لزم حصول الحوادث عن الموثر القديم، من غير تجدد شيء، وبطلت الحجة.
وإن كان الثاني فحصول كمال المؤثرية فيه بعد أن لم تكن أمر حادث، فيقف كمال مؤثريته في هذا الكمال.
وحينئذ فحال الفاعل إما أن يكون عند كمال التأثير في الحادث الثاني، كحاله عند كمال التأثير في الأول، وإما ألا يكون، فإن قدر الأول، لزم أن يحدث هذا الحادث الثاني، والذي بعده، والذي بعده، من غير حدوث سبب أوجب هذا الحدوث؛ لأن الذات الفاعلة حالها عند الأول كحالها عند الثاني والثالث، وحينئذ فإذا كانت عند الأول لا تفعل الثاني، فعند الثاني لا تفعل الثالث؛ لأنه لم يتجدد ما يوجب حدوثه.
وأيضا: فتخصيص أحد الحادثين بالحدوث دون الآخر تخصيص بلا مخصص، وترجيح بلا مرجح، بل نفس الحدوث في كل وقت ترجيح بلا مرجح، وإحداث بلا محدث.
وأيضا فالذات نفسها ليست موجبا تاما في الأزل لشيء من الحوادث، وهي لم تزل على ما كانت عليه، فيلزم ألا تكون موجبة لشيء من الحوادث في الأبد، وإلا لزم الإحداث بلا سبب حادث.
[ ص: 245 ]
وهؤلاء فروا من حدوث الحوادث بعد أن لم تكن بلا سبب، وادعوا دوام حدوثها بلا سبب، فكان الذي فروا إليه شرا من الذي فروا منه، كالمستجير من الرمضاء بالنار.
وأما إن قيل: إن الفاعل نفسه تقوم به إرادات وأفعال توجب تخصيص كل وقت بما أحدثه فيه، كان هذا مبطلا لحجتهم؛ إذ يمكن والحال هذه أن يحدث شيئا بعد شيء مع دوام فاعليته، بل هذا مبطل لمذهبهم.
فإن من تصور هذا الفاعل علم يقينا امتناع مقارنة شيء من أفعاله ومفعولاته له، وعلم أن كل واحد من أفعاله ومفعولاته لا يكون إلا حادثا، لا مساوقا له أزلا وأبدا. وإن كان هذا معلوما في كل ما يقدر أنه فاعل، فهو فيما يقدر أنه فاعل بمشيئته وقدرته، وأفعاله تقوم به، أظهر وأظهر.
ثم يقال: إما أن يكون تسلسل كمال المؤثرات ممكنا، وإما أن يكون ممتنعا، فإن كان ممتنعا لزم حدوث كل ما سوى الله، وأنه لم يكن فاعلا ثم صار فاعلا، وهو مبطل لقولهم. وإن كان ممكنا لم يلزم إلا دوام كونه مؤثرا في شيء بعد شيء، وهذا لا حجة لهم فيه، بل هو مبطل لحجتهم ومذهبهم كما تقدم. والقول في الثاني كالقول في الأول، فيلزم التسلسل في الآثار. وإذا كان ذلك لازما كان جائزا بطريق الأولى، وإذا كان جائزا بطل القول بأنه محال، فبطلت الحجة.
[ ص: 246 ]