الوجه الرابع والعشرون: أن يقال: إذا قدر موجودان: أحدهما محب مريد يفعل ما يريده وهو قادر على ذلك، والثاني لا يحب شيئا ولا يريده ولا يقدر على شيء محبوب مراد، لكن غيره يحبه -كان إجماع العقلاء أن الأول أكمل من الثاني، فإن الثاني شبيه بالخبز والماء واللباس والمساكن التي يحبها الناس ويريدونها، والأول شبه بالناس الذين يحبون ذلك.
ومعلوم أن الثاني أنقص من الأول، والأول أقرب إلى الكمال. فهؤلاء فروا بزعمهم مما توهموه نقصا، فوقعوا فيما هو أعظم نقصا بلا ريب.
وإيضاح هذا أن يقال: إذا قسمنا الموجودات إلى قسمين: حي وميت، وعالم وجاهل، وقادر وعاجز، وقادر على الفعل وغير قادر عليه، بل قادر على الفعل والحركة بإرادته ومحبته، ومن لا إرادة له ولا قدرة له، أو لا فعل له ولا حركة إلى ما يريده، ونحو ذلك- كان الأول هو الموصوف بصفات الكمال دون الثاني.
وأما مجرد كون الشيء مرادا محبوبا، فليس بصفة كمال، إلا أن يكون محبوبا لنفسه مرادا لذاته. وهؤلاء سلبوا الرب جميع صفات الكمال، ووصفوه بالنقائص، ولم يثبتوا له شيئا من الكمال، إلا مجرد كونه
[ ص: 317 ] محبوبا، ولم يقيموا حجة على ذلك، ولا على أنه محبوب لنفسه، فكان ما وصفوه به غاية النقص، بل العدم.