والحوادث مشهودة دلت على وجود القادر بنفسه، ويمتنع أن يكون في الوجود قادران على الاستقلال بالفعل، بحيث يكون كل منهما مستقلا بالفعل وحده، فإنه إذا قدر ذلك، فحال ما يفعل أحدهما الفعل، يمتنع أن يكون الآخر قادرا على ذلك الفعل بعينه، فاعلا له وحده، فإنه إذا فعله أحدهما وحده، لم يكن له شريك، فضلا عن أن يفعله غيره مستقلا، فتبين أنه حال ما يكون الشيء مقدورا لقادر مستقل، أو مفعولا لفاعل مستقل، لا يكون مقدورا ولا مفعولا لآخر مستقل.
فتبين أن ما يقدر عليه ويفعله القادر المستقل، يمتنع أن يقدر عليه غيره ويفعله غيره، بل يكون هذا عاجزا عما يفعله هذا، ولا يكون هذا قادرا
[ ص: 364 ] إلا إذا مكنه الآخر وخلاه يفعله، فلا يكون واحد منهما قادرا حتى يجعله الآخر قادرا، فلا يكون واحد منهما قادرا.
فتبين امتناع وجود قادرين مستقلين، وتبين امتناع وجود الفعل بدون قادر مستقل، وأنه لا يكفي وجود قادر غير مستقل، ولا يجوز وجود قادرين مستقلين، فعلم أن القادر على الخلق واحد، لا يجوز أن يكون اثنان قادرين على الخلق، سواء اتفقا أو اختلفا، وهو المطلوب.
وهذا أمر مستقر في فطر بني آدم وعقولهم، وإن تنوعت العبارات عنه، وإن كان قد يحتاج إذا تغيرت فطرة أحدهم باشتباه الألفاظ والمعاني إلى بسط وإيضاح، فإنهم يعلمون أنه لا يجتمع ملكان متساويان في القدرة والملك، إن لم يكن ملك هذا منفصلا عن ملك هذا، وإلا فإذا كان أحدهما يتصرف فيما يتصرف فيه الآخر، امتنع أن يكون كل منهما قادرا مالكا لما يقدر عليه الآخر ويملكه؛ لأنه يجب حينئذ أن يكون كل منهما قادرا على ما يقدر عليه الآخر، بل فاعلا مدبرا لما يفعله الآخر ويدبره، وذلك ممتنع، فإن قدرة أحدهما على الشيء وفعله له، يمنع أن يكون الآخر قادرا عليه وفاعلا له، إلا في حال عدم قدرة الآخر وفعله، فيمكن أن يفعله هذا إذا لم يفعله هذا، ويقدر أحدهما على فعله إذا لم يفعله الآخر.
فأما حال فعل الآخر له، فيمتنع أن يكون الآخر فاعلا له إذا أراد فعله، وإذا امتنع كون أحدهما فاعلا له إذا أراده، امتنع كونه قادرا عليه، فإن كونه قادرا عليه، مع امتناع فعل له إذا أراده، جمع بين النقيضين، فإن القادر هو الذي يقدر على الشيء إذا أراد فعله، فإذا كان
[ ص: 365 ] لا يقدر عليه إذا أراده، لم يكن قادرا عليه، فامتنع أن يكون الشيء قادرا على فعل ما يفعله غيره، حال كون الآخر فاعلا له، ومفعول أحدهما مقدور له.