فإن قلت: الخلق لزم عن ذاته.
قلنا: والتعقل لزم عن ذاته.
وإن قلت: إن ذلك يمنعه عنه، حتى لا يجعل له به كمالا، أعني كونه يعقل الأشياء.
قلنا: فامنع هذا أيضا، أعني كونه يخلق الأشياء، حتى لا يكون له به كمال، فبما لا يخلق لا يكون خالق المخلوقات ومبدأ أول لها، كما أنه بما لا يعقل لا يكون عاقل المعقولات، ولو بما لا يعقل واحدا منها، مثلما لا يخلق واحدا منها، فإن الذي لزم في علم المعلوم، يلزم مثله في خلق المخلوقات أو إبداع المبدع، فإنه بقياس لا وجوده عنه ليس بخالق ولا مبدع، فإن لم يوجب هذا نقصا، لم يوجب ذاك. وإن أوجب ذاك، فقد أوجب هذا، وإجلاله عن ذلك، كإجلاله عن هذا، وقدرته على هذا، كقدرته على ذاك، فلم نزهته عن ذاك، ولم تنزهه عن هذا؟ ولم خشيت عليه التعب في أن يعقل، ولم تخشه عليه في أن يفعل؟.
[ ص: 409 ]
قال: فهذا جواب كاف في رده على مذهب المجادلة.
قلت: قوله على مذهب المجادلة -يعني المعارضة والنقض- التي تبطل حجة المستدل، وتبين أنها فاسدة وإن لم يعلم حلها، وذلك أن ما ذكره في العلم يلزم مثله بطريق الأولى في الفعل، فإنه من المعلوم بصريح العقل أن كون الشيء مفعولا دون كونه معلوما، فإن المفعولات دون الفاعل، وليس كل معلوم دون العالم، فالإنسان يعلم ما هو أكمل منه، ولا يفعل ما هو أكمل منه. فالمفعول يجب أن يكون دون الفاعل، ويجب أن يكون الفاعل أكمل من المفعول، ولا يجب مثل ذلك في العالم والمعلوم، بل يجوز أن يعلم العالم ما هو أكمل منه، وما لا يفتقر إليه بوجه من الوجوه. وأما مفعوله فهو مفتقر إليه.
فإذا لم يكن كون الأشياء مفعولة له، مما يوجب نقصا له وكمالا بها، فأن لا يوجب كونها معلومة له نقصا له وكمالا بها بطريق الأولى؛ إذ كونها مفعولة أنقص لها من كونها معلومة له، فإذا كانت فاعليته لا تتم إلا بها، ولم يكن ذلك نقصا، فأن لا تكون عالميته التي لا يتم إلا بها نقصا بطريق الأولى.
وذلك من وجوه:
أحدها: أن كونها مفعولة أنقص لها من كونها معلومة.
الثاني: أن لزوم الفعل له أولى بأن يجعل نقصا من لزوم العلم له.
الثالث: أن استلزام الفاعلية المفعول أولى من استلزام العالمية لوجود
[ ص: 410 ] المعلوم، فإن العالم قد يعلم المعلوم معدوما، ويعلمه ممتنعا، ويعلمه قبل وجوده.
وأما الفعل فلا يكون إلا لما يوجد بالفعل، لا لما يكون معدوما مع وجود الفعل. وحينئذ فتوقف كونه فاعلا على وجودها أولى من توقف كونه عالما على وجودها.
الرابع: أنه إذا قيل: فعله لها لا يوجب احتياجه إليها، بل هي المحتاجة إليه من كل وجه، وكماله بفعله الذي هو من ذاته لا منها. قيل: وعلمه بها لا يوجب حاجته إليها بوجه، بل العالم أغنى عن المعلوم من الفاعل إلى المفعول؛ إذ لا يعقل في الشاهد فاعل إلا وهو محتاج إلى فعل، بل ومفعوله، ويوجد عالم لا يفتقر إلى معلوماته، بل ولا إلى علمه بكثير من المعلومات، وإن كان علمه بها صفة كمال، وجوده أكمل منه.
وإذا قدر أن بعض الأفعال لا يحتاج إليه بل هو صفة كمال.
قيل:
الفعل الاختياري لا يكون إلا بإرادة، وحاجة الإنسان إلى وجود كل مراد مطلقا، أعظم من حاجته إلى العلم بما يعلمه مطلقا، وتعلق النفوس بمراداتها، أعظم من تعلقها بمعلوماتها.
ولهذا يقول بعض الناس ويحكونه عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي: (قيمة كل امرئ ما يحسن) ولا يصح هذا عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي، ويقول أهل المعرفة: (قيمة كل امرئ ما يطلب).
فكمال النفوس ونقصها بمرادها، أعظم من كمالها ونقصها بمعلومها.
بل نفس العلم بأي معلوم كان لا يوجب لها نقصا، وأما إرادة بعض
[ ص: 411 ] الأشياء فيوجب لها نقصا، فإذا كان فعله لكل ما في الوجود لا يوجب له نقصا، فكيف بعلمه بذلك؟ وإذا كان فعله لها لا يوجب كونه محتاجا إليها مستكملا بها، فكيف يوجب ذلك علمه بها؟
ونحن نعلم أن كون الفاعل لا يفعل بعض الأشياء أكمل من فعلها، وأما كونه لا يعلمها، فلا يعقل كونه نقصا، إلا إذا اقترن بالعلم ما يذم، لا أن نفس العلم يذم، فإذا كان فعله لبعض الموجودات ليس أكمل من فعله لها كلها، ولم يكن أن لا يفعلها أكمل من أن يفعلها، فكيف يكون أن لا يبصرها أفضل من أن يبصرها؟
وإذ قيل: هو فاعل لبعضها بتوسط بعض.
قيل: كيفما قدرت وجود الفعل ونفي كونه نقصا، كان تقدير وجود العلم ونفي كونه نقصا أولى وأحرى.
فإن قلت: فعله للمفعول الأول لازم لذاته وهلم جرا، ولا يكون نقصا.
قيل: إن قدر أن هناك معلولا أول يلزمه، فإن علمه بنفسه إذا كان يستلزم علمه بالمعلول الأول ولوازمه، لم يكن نقصا بطريق الأولى.