وإذا قيل: إن في التعقلات تعبا.
قيل: من لم يتعب بالفعل، فأن لا يتعب بالعلم بطريق الأولى، فكيف يعقل فاعل يفعل دائما ولا يتعب بالفعل؟ فأن لا يتعب بالعلم بطريق الأولى. فكيف يعقل فاعل يفعل دائما ولا يتعب بالفعل، ولكن يتعب [ ص: 412 ] بعلمه بالمفعول مع كونه عقلا؟ والعقل الذي هو العلم أولى به من الفعل.
وهم يعلمون -وكل عاقل- أن نفس الإنسان لا يتعب بالعلم، كما يتعب بالفعل. وكذلك بدنه إذا قدر فعل لا يكون استحالة وتغيرا، فلأن يقدر علم به لا يكون استحالة وتغيرا بطريق الأولى. وإذا قدر فعل لا يوجب حركة مكانية، فالعلم به أن لا يوجب ذلك أولى وأحرى.
ففي الجملة كل ما توهم المتوهم أنه نقص في العلم، مثل كونه استكمالا بالغير، أو كونه تغيرا، أو كونه متعبا، يلزمه مثله في فعل ذلك لغير المعلوم بطريق الأولى. وإذا كان الفعل لا نقص فيه بل هو كمال، فكذلك للعلم وللغير المذكور، هو مفعوله ومخلوقه الذي هو أبدعه.
فإذا قيل: إن كماله به، فليس كماله إلا بنفسه؛ إذ هو المبدع له، فلم تفتقر نفسه إلى غير نفسه، ونحن نعقل أن ما هو غني عنا علمنا به أكمل من أن لا نعلمه وإن كان غنيا عنا، فلو قدر أن في الوجود ما ليس مفعولا له، كان أن يعلمه أكمل من أن لا يعلمه، فكيف إذا كان هو مفعوله؟
وهل يقال: إن من علم الأشياء بعلوم متجددة، بل علمها بعد وجودها، أنقص ممن لا يعلمها بحال، فكيف يكون من لا يعلمها قبل وجودها وبعد وجودها؟
ولو سمى مسم العلم بالمتغيرات تغيرا وحركة واستكمالا بالغير، ومهما سماه من ذلك، فإذا قيس من يعلم الأشياء إلى من لا يعلمها، كان الأول أكمل بكل حال.
[ ص: 413 ]
ولهذا كان الإنسان القابل للعلم أكمل من الجماد، وإن كان في علمه من التغير والحركة ما ليس في الجماد. وأيضا فمن يكون حيا حساسا يقدر على الحركة، أكمل ممن لا يكون كذلك. وكلما كانت صفات الكمال أكمل، كان الموصوف أكمل، فإن الإنسان أكمل من الحيوان البهيم، والحيوان أكمل من الجماد، وإن قدر أن علمه وفعله مستلزم للحركة، بل للحركة المكانية، فهو أكمل ممن لا علم له ولا يتحرك بإرادته، فالمتحرك بإرادته أكمل ممن لا يمكنه الحركة ألبتة. هذا هو المعقول في الموجودات.
وكلما تدبر الإنسان، ونظر في الأدلة المعقولة، تبين له أن ما ذكره عن أرسطو من الحجج لنفي العلم من أفسد الحجج، بل هي الغاية في الفساد، وهي مبنية على مقدمتين.