ومذهب
أهل السنة أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، فعلمه فعلي لجميع المخلوقات بهذا الاعتبار، لا باعتبار أن مجرد العلم هو الإبداع، من غير قدرة وإرادة، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة، فإن هذا باطل، كما قد بين في موضعه.
والقدرية عندهم أن الله يخلق أفعال العباد، فعلمه بها علم بأمر أجنبي منه، فلهذا لا يجعلون علمه بالمخلوقات فعليا، لكن علمه بمخلوقاته لا ينازعون فيه.
وأما علم العالم بما ليس علمه به شرطا في وجوده، كعلمنا بالله وملائكته وأنبيائه وسمواته وأرضه، فهذا علم تابع للمعلوم، مطابق له، ليس فعليا بوجه من الوجوه.
وعلم الرب بنفسه من هذا الباب. لكن إذا سمي علميا انفعاليا فلا بأس، فإنه علم حادث. وأما علم الرب تعالى فإنه من لوازم نفسه المقدسة
[ ص: 113 ] لم يحدث، فليس انفعاليا بهذا الاعتبار، لكنه مطابق للمعلوم موافق له، فعلمه تابع لنفسه، ومخلوقاته تابعة لعلمه.
والمقصود هنا أنه إذا كان عالما بنفسه لزم أن يكون عالما بخلقه، وهذه قضية صحيحة، ويمكن تقريرها بطرق:
أحدها: أنه لا يكون عالما بنفسه علما تاما إلا إذا كان عالما بلوازمها، والخلق من لوازم مشيئته، التي هي من لوازم نفسه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومشيئته من لوازم نفسه.
والفلاسفة يعبرون عن أصلهم بقولهم: إنه علة تامة، والعلم بالعلة التامة يقتضي العلم بالمعلول.
ومن سلم منهم أنه يفعل باختياره وسماه مع ذلك علة فالنزاع معه لفظي، والمعنى صحيح، فإنه حينئذ مع قدرته على الشيء إذا شاءه وجب وجوده، فما شاء كان، فهو بمشيئته وقدرته موجب لوجود ما شاءه، والعلم بالموجب التام يوجب العلم بموجبه.
وأما من لم يسلم أنه يفعل باختياره، فهذا القول باطل من جهة نفيه لاختياره، لا من جهة أن كونه فاعلا يوجب العلم بالمفعول، فإذا قدر أنه فاعل على هذا الوجه، كان علمه بنفسه يوجب علمه بمفعولاته؛ لأن العلم بالموجب التام يوجب العلم بالموجب.
ففي الجملة لا يكون عالما بنفسه إن لم يكن عالما بلوازمها، وقدرته وإرادته من لوازمها، ومراده من لوازم الإرادة.
فالمفعولات لازمة
[ ص: 114 ] للإرادة اللازمة لذاته، ولازم اللازم لازم. ومجرد النظر إلى كونه مستلزما لمفعوله يوجب العلم. مع قطع النظر عن توسط الإرادة، لكن هي ثابتة في نفس الأمر، وإن لم يستحضر المستدل ثبوتها.
وهذا الدليل يستقيم على أصول أهل السنة الذين يقولون: إرادته من صفاته التي هي من لوازم ذاته.