وأما
القدرية الذين ينكرون قيام إرادة به فينفونها، أو يقولون: أحدث إرادة لا في محل، فهؤلاء لا يسلكون هذه الطريق.
وهذا الدليل مأخوذ من معنى قوله:
ألا يعلم من خلق [الملك: 14].
ودلالة الآية تقرر بطريق ثان، وهو أن يقال: خلق الخالق مشروط بتصوره للمخلوق قبل أن يخلقه، فإن الخلق إنما يخلق بالإرادة، والإرادة مشروطة بالعلم، فإرادة ما لا يشعر به محال. وإذا كان إنما يخلق بإرادته، وإنما يريد ما يصوره، لزم من ذلك أن يعلم كل ما خلقه.
وهذه الطريقة هي طريقة مشهورة لنظار المسلمين، والقرآن قد دل عليها، والعقل الصريح يدرك صحتها، وطرد هذه الدلالة على أصول أهل السنة أن من سوى الله لا يخلق شيئا؛ لأنه لا يحيط علما بجزيئات أفعاله، فلا يكون خالقا لها، وإن كان شاعرا بها من بعض الوجوه، ومريدا لها من بعض الوجوه، فهو فاعل لها من ذلك الوجه.
وهذه الطريقة هي الطريقة التي سلكها
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري في كون العبد ليس خالقا لفعل نفسه.
[ ص: 115 ]
قال: لو كان خالقا لها لكان محيطا بتفاصيلها، واللازم منتف.
لكن
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري وطائفة فرضوا الكلام في العاقل الذي يفعل مع الغفلة.
وطائفة أخرى قالوا: لا يحتاج إلى فرض في العاقل، بل كل فاعل من الآدميين لا يحيط علما بتفاصيل أفعاله، لكنه يشعر بها من حيث الجملة.
ولهذا كان العبد لا يريد شيئا إلا بعد شعوره به، فهو يتصور المراد تصورا مجملا، وإن لم يكن مفصلا. وهذا مما علم به الناس أن الفاعل المريد لا بد أن يتصور المراد. وإن لم تكن إرادتهم مثل إرادة الرب، ولا علمهم كعلمه، كما أنهم يعلمون أن العبد فاعل لأفعاله وإن لم يكن خالقا لها.
وهذا القول الوسط، وهو
إثبات كون الرب خالقا لكل شيء، ومع كون أفعال العباد مخلوقة له، ومع كونها أفعالا للعباد أيضا، وأن قدرة العباد لها تأثير فيه، كتأثير الأسباب في مسبباتها، وأن الله خالق كل شيء بما خلقه من الأسباب، وليس شيء من الأسباب مستقلا بالفعل، بل هو محتاج إلى أسباب أخر تعاونه، وإلى دفع موانع تعارضه، ولا تستقل إلا مشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاء الله كان وإن لم يشإ العباد، وما لم يشأ لم يكن ولو شاء العباد.
وهذا الذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهورها. وليس المقصود هنا الكلام في مسائل القدر، وإنما المقصود الكلام في تحقيق علم الله.
الطريق الثالث الذي به نعلم أن علمه بنفسه يوجب علمه بمخلوقاته، أن يقال: كل ما كان من صفات الرب وأفعاله، فليس هو
[ ص: 116 ] موقوفا على شيء سواه، فلا شريك له بوجه من الوجوه، فهو نفسه موجب تام لجميع صفاته، وهو بصفاته موجب لجميع مفعولاته، فإذا كان عالما بنفسه، لم يكن أن يكون عالما بذاته دون صفاته، فإن ذلك ليس علما بنفسه، فإن الذات المجردة عن الصفات ليست ذاته، ولا وجود لها، وإذا علم صفاته لزم من ذلك علمه بأفعاله، وإلا لم يكن عالما بصفاته؛ لأنه إذا علم أنه خالق للعالم، لم يعلم كونه خالقه، إن لم يعلم العالم، وإلا فالعلم بكونه خالقا للعالم، مع عدم العلم بالعالم، بمنزلة كونه خالقا للعالم بدون وجود العالم، وهذا ممتنع فذاك ممتنع.
ولو قدر نفي الصفات فالعلم بكونه خالقا للعالم يوجب العلم بالعالم.
وهم يعبرون عن ذلك بكونه علة ومبدأ، ونحو ذلك من العبارات التي يشترك فيها هم والمسلمون.
وكونه مبدعا وفاعلا، فالعلم بنفسه يوجب العلم بكونه فاعلا، وإلا لم يكن عالما بنفسه. والعلم بكونه فاعلا يوجب العلم بالمفعول، كما أن يحقق ذاته تحقق كونه فاعلا؛ لأن وجود ذاته الفاعلة للعالم، بدون كونها فاعلة ممتنع، ووجود فعلها بدون العالم ممتنع.
وكون الفعل قديم العين أو النوع أو حادثهما مسألة أخرى، وكون العلم قديما أو حادثا، واحدا أو متعددا، فالمقصود هنا إثبات أنه عالم بكل موجود؛ إذ كل موجود مفعوله، وهذا يتناول علمه بكل موجود، وكل موجود جزئي، فهو يقتضي علمه بكل جزئي.
[ ص: 117 ]
قال تعالى:
وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك: 13-14].
وقد
استدل طوائف من أهل السنة بهذه الآية على أنه خالق أقوال العباد وما في صدورهم.
وهذه الآية تدل على كونه عالما بالجزئيات من طرق:
أحدها: من جهة كون الخلق يستلزم العلم بالمخلوق.
والثاني: من جهة كونه في نفسه لطيفا خبيرا، وذلك يوجب علمه بدقيق الأشياء وحفيها.
ثم يقال: اللطيف الخبير علمه بنفسه أولى من علمه بغيره، وعلمه بنفسه مستلزم لعلمه بلوازم ذاته، كما تقدم. فقد تضمنت الآية هذه الطرق الثلاثة.