ثم يقال: الموجب لعلمه بنفسه، يوجب علمه بجميع أحوال نفسه، كما سيأتي تقريره. ويمتنع أن يخص علمه ببعض أحوال نفسه؛ إذ لا موجب للتخصيص، بل الموجب للتعميم قائم. وإذا كان عالما بجميع أحوال نفسه، وجب ضرورة أن يعلم لوازمها.
واعلم أن المقصود هنا: أن
علمه بنفسه يستلزم علمه بخلقه، ويمتنع وجوده بدونه، كما يستلزم العلم بالدليل على الوجه التام العلم بالمدلول عليه، ويمتنع وجوده دونه.
وأما كون العلم بنفسه أوجب ذلك، وكان علة في وجوده -فهذا،
[ ص: 124 ] وإن كان المتفلسف قد يقوله، فلا حاجة بنا إليه، بل لا يجوز أن يقال ذلك، كما لا يجوز أن يقال: علمه بالدليل سبب لعلمه بالمدلول عليه، فإن علمه سبحانه ليس باستدلالي، بحيث يستفيد العلم بهذا من العلم بهذا، سواء كان الدليل علة، أو لم يكن.
بل هذا مما يطعن به في كلام بعض هؤلاء المتفلسفة، الذين جعلوا علمه من هذا الباب، فإن علمه سبحانه من لوازم نفسه، ونفسه المقدسة مستوجبة للعلم بكل شيء.
كما دل عليه قوله تعالى:
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك: 14]، فإنه في نفسه لطيف خبير، يمتنع أن يخفى عليه شيء.
لكن المقصود هنا أن علمه بنفسه مستلزم لعلمه بخلقه، فيمتنع أن يكون عالما بنفسه علما تاما بدون علمه بخلقه.
وحينئذ فنحن نستدل بعلمه بنفسه على أنه عالم بخلقه، كما نستدل بكل ملزوم على لازمه، وإن كان هو سبحانه لا يحتاج إلى شيء من الاستدلالات.
ولهذا كان من القضايا الصادقة قول القائل: العلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب، أي العلم بالسبب التام، وهو العلة التامة، فإذا علمنا أن الخشبة وقع فيها نار لا تطفأ، علمنا أنها تحترق.
وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه، وهو بمشيئته وقدرته موجب لكل موجود.
فعلمه بنفسه يستلزم علمه بمخلوقاته، أعظم من استلزام
[ ص: 125 ] علم كل عالم بكل علة لكل معلول، فإنه ما من علة تفرض لمعلول، وموجب مقدر لموجب، إلا وهو سبحانه في فعله وإيجابه، أكمل من ذلك في إيجابه واقتضائه.
وما من عالم يفرض علمه بعلة، إلا وعلم الرب بنفسه أكمل من علم كل عالم بتلك العلة، فإن علم كل حي بنفسه، أكمل من علمه بغيره، فكيف بعلم رب العالمين بنفسه؟!
وحينئذ فالعلم بهذا الدليل يستلزم العلم بمدلوله، أعظم من استلزام كل علم بكل دليل لكل مدلول، وعلمه بنفسه بكون هذا الموجب، أو العلة أو المبدإ أو السبب، يوجب العلم بموجبه ومعلوله، أكمل من علم كل عالم بكل موجب وعلة.