الوجه الرابع
أن هذا القول الذي قالوه لم يقله أحد من علماء السلف أهل التفسير، ولا من أهل اللغة، بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإسلام، كما ذكر ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=14274عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من علماء السنة، وبينوا أن هذا من التفسير المبتدع.
وبسبب هذا الابتداع أخذ nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا وأمثاله لفظ الأفول بمعنى الإمكان، كما قال في إشاراته:
«قال قوم: إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه، لكن إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا، وتلوت قوله تعالى:
لا أحب الآفلين [الأنعام: 76] فإن الهوي في حظيرة الإمكان أفول ما» فهذا قوله.
[ ص: 315 ]
ومن المعلوم بالضرورة من لغة العرب: أنهم لا يسمون كل مخلوق موجود آفلا، ولا كل موجود بغيره آفلا، ولو كان الخليل أراد بقوله:
لا أحب الآفلين [الأنعام: 76] هذا المعنى، لم ينتظر مغيب الكوكب والشمس والقمر، ففساد قول هؤلاء المتفلسفة في الاستدلال بالآية أظهر من فساد قول أولئك.
وأعجب من هذا قول من قال في تفسيره: إن هذا قول المحققين.
واستعارته لفظ: «الهوي»، و«الحظيرة» لا يوجب تبديل اللغة المعروفة في معنى الأفول، فإن وضع هو لنفسه وضعا آخر، فليس له أن يتلو عليه كتاب الله تعالى فيبدله أو يحرفه.
وقد ابتدعت
القرامطة الباطنية تفسيرا آخر، كما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14847أبو حامد في بعض مصنفاته، كمشكاة الأنوار وغيرها: أن الكواكب والشمس والقمر: هي النفس، والعقل الفعال، والعقل الأول، ونحو ذلك.
وشبهتهم في ذلك: أن
إبراهيم صلى الله عليه وسلم أجل من أن يقول لمثل هذه الكواكب: إنه رب العالمين، بخلاف ما ادعوه من النفس، ومن العقل الفعال الذي يزعمون أنه رب كل ما تحت فلك القمر، والعقل الأول الذي يزعمون أنه مبدع العالم كله.
[ ص: 316 ]
وقول هؤلاء ـ إن كان معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام ـ فابتداع أولئك طرق مثل هؤلاء على هذا الإلحاد.
ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب: أن هذه المعاني ليست هي المفهوم من لفظ الكوكب والقمر والشمس.
وأيضا فلو قدر أن ذلك يسمى كوكبا وقمرا وشمسا بنوع من التجوز: فهذا غايته أن يسوغ للإنسان أن يستعمل اللفظ في ذلك، لكنه لا يمكنه أن يدعي أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن كانوا يريدون هذا بهذا، القرآن نزل بلغة الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يستعمل ألفاظه في معان بنوع من التشبيه والاستعارة، ثم يحمل كلام من تقدمه على هذا الوضع الذي أحدثه هو.
وأيضا فإنه قال تعالى:
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا [الأنعام: 76] فذكره منكرا: لأن الكواكب كثيرة، ثم قال:
فلما رأى القمر [الأنعام: 77]،
فلما رأى الشمس [الأنعام: 78] بصيغة التعريف لكي يبين أن المراد القمر المعروف والشمس المعروفة، وهذا صريح بأن الكواكب متعددة، وأن المراد واحد منها، وأن الشمس والقمر هما هذان المعروفان.
وأيضا فإنه قال:
لا أحب الآفلين والأفول هو المغيب والاحتجاب، فإن أريد بذلك المغيب عن الأبصار الظاهرة فما يدعونه من العقل والنفس لا يزال محتجبا عن الأبصار لا يرى بحال، بل وكذلك واجب الوجود،
[ ص: 317 ] فالأفول أمر يعود إلى حال العارف بها، لا يكسبها صفة نقص ولا كمال، ولا فرق في ذلك بينها وبين غيرها.
وأيضا فالعقول عندهم عشرة والنفوس تسعة بعدد الأفلاك.
فلو ذكر القمر والشمس فقط لكانت شبهتهم أقوى، حيث يقولون: نور القمر مستفاد من نور الشمس، كما أن النفس متولدة عن العقل، مع ما في ذلك ـ لو ذكروه ـ من الفساد، أما مع ذكر كوكب من الكواكب فقولهم هذا من أظهر الأقوال
للقرامطة الباطنية فسادا، لما في ذلك من عدم الشبه والمناسبة التي تسوغ في اللغة إرادة مثل هذا.
والكلام على فساد هذا طويل ليس هذا موضعه.
ولولا أن هذا وأمثاله هو من أسباب ضلال كثير من الداخلين في العلم والعبادة، إذ صاحب كتاب «مشكاة الأنوار» إنما بنى كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة، وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس خطاب الله عز وجل
لموسى بن عمران النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقوله
القرامطة الباطنية ونحوهم من المتفلسفة، وجعل «خلع النعلين» الذي خوطب به
موسى صلوات الله عليه وسلامه إشارة إلى ترك الدنيا
[ ص: 318 ] والآخرة، وإن كان قد يقرر خلع النعلين حقيقة، لكن جعل هذا إشارة إلى أن من خلع الدنيا والآخرة فقد حصل له ذلك الخطاب الإلهي.
وهو من جنس قول من يقول: إن النبوة مكتسبة، ولهذا كان أكابر هؤلاء يطمعون في النبوة، فكان
nindex.php?page=showalam&ids=14536السهروردي المقتول يقول: «لا أموت حتى يقال في: قم فأنذر»، وكان ابن سبعين يقول: «لقد زرب ابن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي»، ولما جعل خلع النعلين إشارة إلى ذلك، أخذ ذلك
ابن قسي ونحوه ووضع كتابه في «خلع النعلين»، واقتباس النور من موضع القدمين من مثل هذا الكلام.