وكل
من اعتقد نفي ما أثبته الرسول حصل في نوع من الإلحاد بحسب ذلك، وهؤلاء كثيرون في المتأخرين، قليلون في السلف. ومن تدبر كلام كثير من مفسري القرآن، وشارحي الحديث، ومصنفي العقائد النافية والكلام، وجد فيه من هذا ما يتبين له به حقيقة الأمر.
وقوله في النور: إنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه وكذلك
[ ص: 271 ] الأفهام، مع أنه ليس بجسم تناقض من وجهين: أحدهما: أن المحسوس الذي يحسه الناس ليس إلا جسما أو عرضا في جسم. والثاني: أن النور الذي يعرفونه ليس إلا جسما أو عرضا في جسم، وذلك كنور المصابيح ونحوها.
فإنه إما أن يراد به نفس النور الخارج من ذبالة المصباح فذلك نار، والنار جسم.
وإما أن يراد به ما يصير على ما يلاقيه من الأرض والجدران والهواء من الضوء، فذلك عرض قائم بغيره.
وكذلك الشمس والقمر، إن أريد بالنور نفس ذات واحد منهما، كقوله:
جعل الشمس ضياء والقمر نورا [يونس: 5]، فالقمر جسم. وإن أريد بالنور ما على الأرض والهواء من ضوء ذلك، فذلك عرض، فلا يعرف الناس نورا إلا هذا وهذا.
وأيضا فإذا كان السؤال بما هو طبيعي للإنسان لا يقدر أن ينفك عنه، ولا يقنع الإقناع في جواب هذا السؤال بعد الاعتراف بوجود المسؤول عنه، بأن يقال: لا ماهية له لأن ما لا ماهية له لا ذات له، فلا يقع الإقناع بجواب ليس مطابقا للحقيقة.
وبتقدير أن لا يكون هو في نفسه نورا، يكون الجواب غير مطابق للحقيقة.
وحينئذ فالجواب المطابق للحق، مع الإعراض عن ذكر الحقيقة، أحسن من هذا، كما تقوله طائفة من الناس في جواب
موسى لفرعون لما سأله بقوله:
[ ص: 272 ] وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين [الشعراء: 23-24]. قالوا: لما سأله عن الماهية، والمسؤول عنه لا ماهية له، عدل إلى ما يصلح الجواب به.
فقول هؤلاء، مع أنه خطأ، أقرب من أن يجاب عن الماهية بما ليس مطابقا للحق. وإنما كان قول هؤلاء خطأ؛ لأن
فرعون لم يسأل
موسى سؤال مستفهم طالب للعلم بماهية المسؤول عنه، حتى يجاب جواب المستفهم السائل، كما ذكره الناس في جواب السؤال بما هو.
ولكن هذا استفهام إنكار ونفي وجحود للمسؤول عنه، فإن
فرعون كان مظهرا لجحد الصانع.
ولهذا قال:
ما علمت لكم من إله غيري [القصص: 38]، وقال:
أنا ربكم الأعلى [النازعات: 24]، وقال:
يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا [غافر: 36-37]، فلما قال له
موسى: {إني رسول من رب العالمين} [الأعراف: 104] تكلم بما هو جحد ونفي وإنكار لمسمى رب العالمين. فقال:
وما رب العالمين [الشعراء: 23].
كما لو ادعى على أحد مدع أن هذا ولدك أو شريكك في المال، أو أعطاك هذا المال، ونحو ذلك. فقال: من هو ولدي؟ ومن هو شريكي؟ ومن هو الذي أعطاني؟ فإنه يقول ذلك على سبيل الإنكار والجحد، لا على سبيل الاستعلام والاستفهام. فإذا كان منكرا للحق أجيب بما يقيم الحجة عليه، فيقال له: هذا الذي ولدته امرأتك فلانة، أو الذي اشتريت أنت وهو المال الفلاني، أو هو
[ ص: 273 ] الذي أقررت له بذلك، وأشهدت به عليك فلانا وفلانا، ونحو ذلك.
ولهذا أجابه
موسى بما فيه تقرير لما أنكره وتثبيت له، فقال:
رب السماوات والأرض وما بينهما [الشعراء: 24]، وقال
ربكم ورب آبائكم الأولين [الشعراء: 26]، وذلك لأن
العلم بثبوت هذا الرب أمر مستقر في الفطر، مغروز في القلوب.
يبين هذا أن السؤال عن ماهية الشيء الثابتة في الخارج يكون بعد الاعتراف بوجوده. أما ما يكون مجحودا منتفيا في نفس الأمر، فلا ماهية له في الخارج حتى يسأل عنها، ولكن قد يسأل المسؤول عن تصوير ما يقوله، وإن لم تكن له حقيقته في الخارج.