صفحة جزء
أما إذا ادعى شيئا في الخارج، والمدعي ينكر وجوده، فإنه لا يطلب منه أن يعرفه ماهية ما لا حقيقة له، بل يسأله على طريق إنكار ذلك، لا على طريق الاستعلام عن ذلك.

وإذا كان المسؤول عنه مما لا وجود له طولب بتمييزه وتعريفه، حتى يبين له أنه لا وجود له، وأنك تدعي ثبوت ما ليس بثابت، كما يقال لمن يدعي أن هنا جبلا من ياقوت أو بحرا من زئبق، أين هو؟ وكيف هو؟ وكما يقال لمن يدعي وجود المنتظر المعصوم الداخل إلى سرداب سامرا: بماذا يعرف؟ وكم كان عمره حين دخل؟ وماذا الذي يمنعه من الظهور؟ ونحو ذلك من المسائل التي يبين بها عدم المسؤول عنه، أو عدم ما أثبته المسؤول له. [ ص: 274 ]

وهذا في القرآن كثير، كقوله تعالى: ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها [الأعراف: 195].

وقوله تعالى: قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض [يونس: 18].

وقوله: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى [النجم: 19-21]

ومنه قولهم: أهذا الذي بعث الله رسولا [الفرقان: 41].

وقول الكفار: أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون [الصافات: 16-17].

وإذا كان المسؤول عنه موجودا، كان الجواب بما يدل على وجوده.

فلهذا أجاب موسى للمنكرين بما يدل على إثبات الصانع سبحانه، فإن افتقار السماوات والأرض وما بينهما، والمشرق والمغرب، والموجودين وآثارهم، إلى الصانع، واستقرار ذلك في فطرهم -أمر لا يمكن إنكاره إلا عنادا.

كما قال تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [النمل: 14].

وذكر موسى عليه السلام السماوات والأرض، والليل والنهار، والأولين والآخرين، فذكر الأعلى والأسفل، والمتيامن والمتياسر، والمتقدم والمتأخر.

وهذه هي الجهات الست للإنسان، وذكر التقدم [ ص: 275 ] والتأخر بالزمان، بعد أن ذكر التقدم والتأخر بالمكان، فإن المكان دخل في السماوات والأرض، والمشرق والمغرب. وذكر موسى خلق الإنسان، بعد أن ذكر الخلق العام.

كما في قوله: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق [العلق: 1-2].

وكما في قوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [فصلت: 53].

فإذا كان المسؤول عنه بما هو، لا بد أن تكون له ذات هي ماهيته، كان الجواب عنها بما يمكن من التعريف، فإن أمكن أن يعرف بعينه قيل: هذا هو، أو هو فلان بن فلان، ونحو ذلك مما يميزه عند السائل، ويوجب معرفته بعينه بالإحساس، لكن معرفة عينه لم تحصل هنا بمجرد كلام المتكلم، بل بالإحساس به، وإن لم يمكن معرفته بعينه عرف بنظيره، ولا يكون له نظير من كل وجه، فإنه لو كان نظير من كل وجه، لم يكن المجهول إلا عينه.

وإذا كان المطلوب معرفة عينه لم يحصل الجواب بالنظير، وإنما يعرف بالنظير نوعه، فلا يجاب بالنظير، إلا إذا كان السؤال عن معرفة نوعه.

وحينئذ فتحصل المعرفة به بحسب مماثلة ذلك النظير له، لأجل القدر المشترك الذي بين المتماثلين.

كمن سئل عن الخمر، فقال: شراب مسكر فلا بد أن يكون السائل يعرف الشرب ويعرف السكر، ولكن لم يعرف نوع سكر الخمر، بل عرف مثلا سكر الغضب والعشق والحزن، وعرف زوال العقل [ ص: 276 ] بالجنون والبنج، فلو سأل عن السكر، قيل له: لذة مع زوال الحزن.

فقولنا: لذة، يخرج سكر الغضب والحزن، فإنه ألم، بخلاف سكر العشق. ولكن ليس هذا مثل هذا، فلا يمكن تعريفه ذلك إلا بالقدر المشترك بين هذه اللذة وسائر اللذات، وبالقدر المشترك بين زوال العقل بهذا السبب وغيره من الأسباب. ثم إذا انضم إلى ذلك أنه شراب يميز المسؤول عنه عن غيره.

ولهذا كان حقيقة الأمر أن الحدود المقولة في جواب ما هو إنما يحصل التمييز بين المحدود وغيره. وأما نفس تصور حقيقته، فذاك لا يحصل بالقول والكلام، لا على وجه التحديد ولا غيره، بل بإدراك النفس المحدودة.

فالسائل إذ سأل عن الرب ما هو، أمكن أن يجاب بأجوبة تميزه عما سواه سبحانه، بحيث لا يشركه غيره في الجواب، ويمكن أن يذكر من الأمور المشتركة بحسب إدراك السائل ما يحصل به من المعرفة ما يشاء الله.

التالي السابق


الخدمات العلمية