[ ص: 293 ] والناس قد تنازعوا في قوله تعالى: ويسألونك عن الروح [الإسراء: 85]: هل المراد به روح ابن آدم، أو ملك من الملائكة، أو غير ذلك؟ على قولين مشهورين.
وبتقدير أن يكون المراد روح الإنسان، فالنص لم يخبر بكيفيتها؛ لأن الإخبار بالكيفية إنما يكون فيما له نظير يماثله، وليست الروح من جنس ما نشهده من الأعيان، فلا يمكن تعريفنا بكيفيتها، وإن كانت لها كيفية في نفسها.
ثم يقال لهذا الذي أحال على ما قالوه في النفس: من المعلوم أن أعظم برهان لهم في أن النفس ليست جسما: قولهم: إن العلم يحل فيها، فلو كانت جسما لا تقسم الحال فيها بانقسامها، فإن الجسم منقسم، والعلم لا ينقسم ولا بعض له. وقد يفرضون ذلك في العلم بما لا ينقسم، كالعلم بالكليات والمجردات وواجب الوجود.
والعلم بالمعلوم الواحد لا ينقسم؛ إذ العلم يتبع المعلوم، فإذا لم يكن المعلوم منقسما، لم يكن العلم منقسما، فلم يكن محل العلم منقسما، فلا يكون جسما. هذا أعظم ما عندهم من البراهين.
وقد اضطرب الناس في جوابه، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
لكن نقول هنا: جوابه من وجوه:
أحدها: أن يقال: قيام العلم بالنفس كقيام الحياة والقدرة والإرادة، والحب والبغض، وسائر الأعراض المشروطة بالحياة. وهم يسلمون أن هذه الصفات تقوم بالجسم، فما كان جوابا عن قيام هذه الصفات بالنفس، كان جوابا عن قيام العلم.
[ ص: 294 ]
الثاني: ما عارضهم به صاحب التهافت وغيره.
وقالوا: هذا باطل عليكم بالقوة الوهمية التي تدرك في المحسوس ما ليس بمحسوس، كإدراك القوة التي في الشاة عداوة الذئب، فإنها في حكم شيء واحد لا يتصور تقسيمه؛ إذ ليس للعداوة بعض حتى يقدر إدراك بعضه وزوال بعضه، وقد حصل إدراكها في قوة جسمانية عندكم، فإن نفس البهائم منطبعة في الأجسام لا تبقى بعد الموت، وقد اتفقوا عليه، فإن أمكنهم أن يتكلفوا تقدير الانقسام في المدركات بالحواس الخمس، وبالحس المشترك، وبالقوة الحافظة للصور، فلا يمكنهم تقدير الانقسام في هذه المعاني التي ليس من شرطها أن تكون في مادة.
وأورد على نفسه سؤالا، فقال: هذه مناقضة في العقليات؛ إذ العقليات لا تنتقض، فإنه مهما لم يقدروا على الشك في المقدمتين، وهو أن العلم الواحد لا ينقسم، وأن ما لا ينقسم لا يقوم بجسم منقسم -لم يمكنهم الشك في النتيجة. وأجاب بأن المقصود بيان تهافتهم وتناقضهم وقد حصل؛ إذ انتقض أحد الأمرين: إما ما ذكروه في النفس الناطقة، أو ما ذكروه في القوة الوهمية.
الجواب الثالث: أن يقال: ما تعنون بقولكم: العلم لا ينقسم، ومحله إذا كان جسما ينقسم؟ إن عنيتم بالانقسام إمكان تفريقه، فلم قلتم: إن كل جسم يمكن تفريقه؟ وبتقدير أن يكون ممكنا في نفسه، فلم قلتم: إنه إذا قسم لا تبقى النفس نفسا ولا روحا، وإن بقيت أجزاؤها متفرقة؟
وكذلك يقال في العلم والقدرة والحياة وسائر الأعراض القائمة
[ ص: 295 ] بالنفس: هي لا تبقى بعد تفرق النفس، فقيامها بالنفس مشروط ببقاء النفس. فإذا قدر أنها فرقت لم تكن باقية، فلا تقوم بها الأعراض، وهذا كقيام الأعراض بالبدن، فإن قيام الحياة والحس والحركة ببعض البدن، قد يكون مشروطا بقيامه بالبعض الآخر، فإذا قطعت بعض الأوصال فارقت الحياة والقدرة والحس لمحل آخر.
فما المانع من أن يكون قيام العلم وغيره من الأعراض مشروطا بأن لا تفرق ولا تفسد إن كانت قابلة للتفريق؟
الجواب الرابع: قولكم: العلم الواحد بالمعلوم الواحد الذي لا ينقسم: ما تعنون بالمعلوم الواحد الذي لا ينقسم؟ إن عنيتم به العقول المجردة، فتلك إثباتها فرع على إثبات النفس. وكذلك واجب الوجود قد قلتم: إنه لا يمكن نفي ذلك عنه، إلا بعد نفي ذلك عن الجسم، فلو نفي ذلك عن النفس بناء على نفيه عنه، لزم الدور.
وهب أن منكم من لا يقول ذلك، فالمنازع لا يسلم ثبوت شيء من الموجودات على الوجه الذي تدعونه من أنه لا يشار إليه ولا إلى محله.