فإن قيل: فلا بد من فصل النزاع بين كل اثنين في الدين.
[ ص: 314 ]
قيل: فصل النزاع قد يكون بوجهين: أحدهما:
نهي كل منهما عن منازعة الآخر بهذا؛ إذ هو نزاع فيما لا فائدة فيه. كما لو تنازع اثنان في لون كلب أصحاب الكهف، ومقدار السفينة، والبعض من البقرة الذي أمر الله بالضرب به، إن قدر أنه كان معينا، مع أن ظاهر القرآن يدل على أنه مطلق لا معين، وفي أمثال ذلك من الأمور التي لا فائدة فيها، وقد لا يكون إلى معرفتها سبيل -فمثل هذا ينهى كل منهم عن منازعة الآخر فيه، بل ينهى عن أن يقول ما لا يعلم.
والثاني أن يفصل النزاع ببيان الخطأ من الصواب. وحينئذ فإذا فصل النزاع بين المتنازعين في الجسم، قيل: النزاع على وجهين: لفظي، ومعنوي.
فإن كنتم تتنازعون في مسمى الجسم في اللغة، فليس مسماه ما قلته أنت من أن كل قائم بنفسه أو مشار إليه يسمى جسما، ولا ما قلته أنت من أن الجسم في اللغة هو المركب من أجزاء، فإن الهواء أو نحوه عنده مركب، والعرب لا تسميه جسما، وهو مشار إليه قائم بنفسه، والعرب لا تسميه جسما.
فقول كل واحد منكما غير موافق للغة العرب. وغايته أن يكون اصطلاحا منكم على معنى، كسائر الألفاظ الاصطلاحية، فيكون نزاعهم كتنازع الفقهاء في لفظ الفرض هل هو مرادف للواجب
[ ص: 315 ] أو أوكد منه؟ ولفظ السنة هل يدخل فيه الواجب أو لا يدخل؟ ومثل هذه المنازعات اللفظية الكثيرة.
وهذه بمنزلة اللغات والعادات في العبادات، قد تحمد أو تذم بحسب الشرع تارة وبحسب اللغة أخرى، وقد لا تحمد ولا تذم.
وإن كان نزاعكم في معنى عقلي، وهو أن العين التي اتفقتم على تسميتها جسما بحسب اصطلاحكم، وهي ما يشار إليه بقول أحدكما: إنها مركبة من أجزاء مفردة، أو المادة والصورة، والآخر ينكر ذلك -فهذا يمكن فصل النزاع بينكم، إذا كان النزاع معنويا، بالأدلة العقلية تارة، وبغيرها أخرى.
ولكن مثل هذه المسائل لا يحتاج إليها الدين، كما لا يحتاج إلى مسائل الهيئة والتشريح، وإن كان العلم بها مما ينتفع به في الدين، كما ينتفع بالحساب والطب، وكما ينتفع بمسائل النحو واللغة، ونحو ذلك.