قال الرازي: "واحتجوا بأن الدليل على أن الكلام والسمع
[ ص: 217 ] والبصر صفات حادثة، ولا بد لها من محل، وهو ذاته تعالى، ولأنه يصح قيام الصفات القديمة بذاته تعالى باتفاق منا ومن
الأشعرية، والقدم لا يعتبر في المقتضى، فإنه عبارة عن نفس الأزلية وهو عدمي، فالمقتضى هو كونها صفات، والحوادث كذلك فليلزم قيامها به".
قال: "والجواب عن الأول بالجواب عن أدلة حدوث تلك الصفات، وعن الثاني بأن تلك الصفات قد تكون مخالفة لهذه بالنوع، سلمنا أنه لا فارق سوى القدم فلم قلتم: إنه عدمي، فإنه عبارة عن نفي العدم السابق، ونفي النفي ثبوت؟"
قلت: ليس المقصود هنا ذكر أدلة المثبتة، فإن النصوص تدل على ذلك في مواضع لا تكاد تحصى إلا بكلفة، وإنما الغرض بيان: هل في العقل ما يعارض النصوص؟ ومن أراد تقرير ما احتجوا به من الدليل العقلي على الإثبات قدح فيما يذكره النفاة من امتناع حدوث تلك الأمور.
[ ص: 218 ]
وعمدة المانعين هو امتناع حلول الحوادث، وامتناع تسلسلها، فإذا كانوا لا ينفون حدوثها في ذاته إلا لامتناع حلول الحوادث: لم يجز أن يجيبوا عن أدلة الحدوث بمجرد دليل امتناع حلول الحوادث إن لم يجيبوا عن المعارض ؛ لأن ذلك دور، فإذا قال القائل: الدليل على بطلان دليل المثبتة هو تدليل النفاة، قيل له: دليل النفاة لا يتم إلا ببطلان دليل المثبتة، فإذا لم تمكن المطالبة إلا بدليل المثبتة كان صحة دليل النفاة متوقفا على صحته، وذلك دور، فإنه لا يتم نفي ذلك إلا بالجواب عن حجة المثبتين، فيكون قولهم بانتفاء حلول الحوادث مبنيا على انتفاء حلول الحوادث، فلا يكون لهم حجة على ذلك.
فالمثبتون معهم السمعيات الكثيرة المتواترة بخلاف النفاة، فإنه ليس معهم شيء من السمع، وإنما يدعون قيام الدليل العقلي على امتناع قيام الحوادث به، فإذا أراد بعض المثبتين أن يقيم دليلا عقليا على قيامها به أو إمكان قيامها به، احتاج إلى أن يجيب عن أدلة النفاة، والنفاة لا يتم دليلهم على النفي حتى يجيبوا على أدلة المثبتين، وإلا فلو قدر تعارض الأدلة العقلية من الجانبين فتكافأتا، وبقيت الأدلة السمعية خالية عن معارض يجب تقدمه عليها، فإذا احتج المثبتون بالآيات والأحاديث لم يمكن للنفاة أن يقولوا هذا يثبت قيام الحوادث به وذلك ممتنع، إلا إذا أقاموا الدليل العقلي على الامتناع، أجابوا عما يحتج به المثبتة من الدليل العقلي، فلا بد للنفاة من هذا وهذا، بخلاف المثبتة فإنه يمكنهم
[ ص: 219 ] أن يقولا السمع دل على ذلك، ولم يقيموا دليلا عقليا خاليا عن المعارض المقاوم ينفي ذلك، فلا يحتاج المثبتون إلى دليل عقلي يوافق السمع، يل يكفيهم إبطال ما يعارضه، وإذا أقاموا دليلا عقليا فعورضوا بأدلة النفاة لم يحتاجوا إلى إبطالها، بل تكفيهم المعارضة، فإذا أبطلوا كانوا قد سدوا على النفاة الأبواب.
فلهذا كان ما يحتاج إليه النفاة من إقامة دليل عقلي، وإبطال ما يعارضه، مما احتاج إليه المثبتة، بل يكفيهم منع مقدمات المعارض، فإن أبطلوها فقد زادوا، وتكفيهم المعارضة بالعقليات، فإن بينوا رجحان عقلياتهم فقد زادوا، وإذا بينوا صحة عقلياتهم وبطلان عقليات النفاة ومعهم السمعيات، كانوا قد أثبتوا أن معهم السمع والعقل، وأن المنازغ ليس معه لا سمع ولا عقل.
وأما أدلة المثبتين فهو ما يذكرونه من الشرعيات والعقليات، وهم قد قدحوا في أدلة النفاة، فيتم كلامهم.
وأما التسلسل
فالكرامية ومن وافقهم لا يجيزونه، كما لا يجيزه كثير من المعتزلة ومن وافقهم، وأما من يجوز التسلسل في الآثار من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم، فهؤلاء قد عرف طعنهم في أدلة النفاة، وطعن النفاة في أدلة بعض، حتى متكلمة أهل الإثبات
[ ص: 220 ] من
الأشعرية وغيرهم متنازعون في ذلك كما قد عرف.
وأيضا فإن المثبتين يقولون: كونه قادرا على الفعل بنفسه صفة كمال، كما أن قدرته على المفعول المنفصل صفة كمال، فإنا إذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الفعل القائم به والمنفصل عنه ومن لا يقدر على أحدهما علم أن الأول أكمل، كما إذا عرضنا عليه من يعلم نفسه وغيره ومن لا يعلم إلا أحدهما، وأمثال ذلك، ويقول من يجوز دوام الحوادث وتسلسلها: إذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الأفعال المتعاقبة الدائمة ويفعلها دائمة متعاقبة، ومن لا يقدر على الدائمة المتعاقبة كان الأول أكمل.
وكذلك إذا عرضنا على العقل من فعل الأفعال المتعاقبة مع حدوثها، ومن لا يفعل حادثا أصلا لئلا يكون عدمه قبل وجوده عدم كمال، شهد صريح العقل بأن الأول أكمل، فإن الثاني ينفي قدرته وفعله للجميع، لئلا يعدم البعض في الأزل، والأول يثبت قدرته وفعله للجميع مع عدم البعض في الأزل، فذاك ينفي الجميع حذرا من فوت البعض، والثاني يثبت ما يثبته من الكمال مع فوت البعض، ففوت البعض لازم على التقديرين، وامتاز الأول بإثبات كمال في قدرته وفعله لم يثبته الثاني.
وأيضا فهم يقولون: كون الكلام لا يقوم بذاته يمنع أن يكون
[ ص: 221 ] كلامه، فإن ما قام به شيء من الصفات والأفعال عاد حكمه إليه، لا إلى غيره، فإذا خلق في محل علما أو قدرة أو كلاما كان ذلك صفة للمحل الذي خلق فيه، فذلك المحل هو العالم القادر المتكلم به، فإذا خلق كلاما في محل كان ذلك الكلام المخلوق كلام ذلك المحل، لا كلامه، فإذا خلق في الشجرة:
إني أنا الله رب العالمين [ سورة القصص: 30] ولم يقم هو به كلام كان ذلك كلاما للشجرة، فتكون هي القائلة: "إني أنا الله رب العالمين" وهذا باطل، فيتعين أن يقوم به الكلام، وكونه لا يقدر أن يتكلم ولا يتكلم بما شاء، بل يلزمه الكلام كما تلزمه الحياة، مع كون تكليمه هو خلق مجرد الإدراك، يقتضي أن يكون القادر على الكلام الذي يتكلم باختياره أكمل منه، فإنا إذا عرضنا على العقل من يتكلم باختياره وقدرته ومن كلامه بغير اختياره وقدرته كان الأول أكمل، فتعين أن يكون متكلما بقدرته ومشيئته كلاما يقوم بذاته، وكذلك في مجيئه وإتيانه واستوائه وأمثال ذلك، إن قدرنا هذه أمورا منفصلة عنه: لزم أن لا يوصف بها، وإن قدرناها لازمة لذاته لا تكون بمشيئته وقدرته: لزم عجزه وتفضيل غيره عليه، فيجب أن يوصف بالقدرة على هذه الأفعال القائمة به، التي يفعلها بمشيئته وقدرته، وهذا هو الذي تعنيه النفاة بقولهم: لا تحله الحوادث، كما يعنون نفي العلم والقدرة ونحوهما بقولهم: لا تحله الأعراض.