[ ص: 285 ] فإن قيل: فما الفرق بين هذا التسلسل وبين التسلسل في تمام تأثير معين بعد معين. قيل: الفرق بينهما من وجوه:
أحدها: أن هؤلاء قد قالوا إنه مؤثر تام في الأزل، والمؤثر التام مستلزم أثره معه، فيلزمكم أن لا يحدث عنه شيء، بل تكون جميع الممكنات قديمة أزلية، وهذا باطل بالحس والمشاهدة.
فادعوا أمرين باطلين: أحدها: أنه كان مؤثرا تاما في الأزل، وأن المؤثر التام يكون أثره معه في الزمان حتى يكون الأثر مقارنا للمؤثر في الزمان.
فإن قيل: إنه يتقدم عليه بالعلية، وهذا بخلاف قول من قال: لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء، فهذا لم يقل إنه كان مؤثرا في الأزل في شيء قط، ولم يكن مؤثرا تاما في الأزل قط.
الثاني: أنهم إن قالوا: إن الأثر يجب أن يقارنه أثره في الزمان لزم أن لا يحدث شيء. وإن قالوا: بل الأثر عقب المؤثر في الزمان لزم أن لا يكون معه قديم، وحينئذ فمن قال بهذا قال: إنه لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء، وكل ما سواه حادث مسبوق بالعدم.
الثالث: أن هؤلاء يقولون: كل حادث معين لا بد أن يحدث تمام تأثيره فيكون هو حادثا عقب تمام التأثير، فأي شيء كونه الله كان عقب
[ ص: 286 ] تكوين الرب له، كأجزاء الزمان والحركة التي توجد شيئا فشيئا، فقوله تعالى:
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ سورة يس: 82]، فيكون الحادث عقب تكوين الرب له، كما يكون الانكسار عقب التكسر، والطلاق عقب التطليق، فيلزم على هذا حوادث متعاقبة شيئا بعد شيء.
وهذا غير ممتنع عند من يقول بهذا من أئمة أهل الملل، ومن الفلاسفة، بخلاف قول المتفلسفة ومن وافقهم على أن الأثر يكون مع المؤثر في الزمان، كما قالوا: الفلك قديم بقدم علته، وهو معه في الزمان.
فهؤلاء إن قالوا بحدوث الحوادث بدون سبب حادث لزمهم المحذور الذي فروا منه. وإن قالوا: بل عند كل حادث يحدث مع زمن حدوثه وحدوث تمام مؤثره لزم حدوث حوادث لا تتناهى في آن واحد من غير تجدد شيء عن المؤثر الأزلي. فلزمهم التسلسل في تمام أصل التأثير، لا في تأثير معين، وهو ممتنع مع قولهم بحوادث لا تتناهى في آن واحد.
وهم وسائر العقلاء يسلمون بطلان هذا، وإنما نازع فيه معمر صاحب المعاني، وقد ظهر بطلان ذلك، فإنه تسلسل في أصل التأثير، لا في تأثير المعينات، فلزمهم المحال الذي لزم أصحاب معمر، ويلزمهم المحال والتناقض الذي اختصوا به؟، وهو قولهم بأن المؤثر مع
[ ص: 287 ] مؤثره في الزمان، مع كون الرب مؤثرا تاما في الأزل، فيلزمهم أن لا يحدث في العالم شيء.
ومنها أن يقال: التسلسل جائز في أصلكم، فلا تكون الحجة برهانية، بل تكون جدلية، وهي تلزمنا بتقدير صحتها أحد أمرين: إما القول بالترجيح بلا مرجح، وإما القول بالتسلسل، وإلا كنا قد تناقضنا في نفي هذا وهذا، ولكن جواز التناقض علينا يقتضي بطلان أحد قولينا، فلم قلتم: إن قولنا الباطل هو نفي الترجيح بلا مرجح، مع اتفاقنا على بطلانه؟ فقد يكون قولنا الباطل: هو نفي التسلسل في الآثار الذي نازعنا فيه من نازعنا من إخواننا المسلمين مع منازعتكم لنا في ذلك، وإذا كان كذلك فالتزامنا لقول نوافق فيه إخواننا المسلمين وتوافقوننا أنتم عليه وتبطل به حجتكم على قدم العالم، أولى أن نلتزمه من قول يخالفنا فيه هؤلاء وهؤلاء، وتقوم به حجتكم على قدم العالم.