والمسلمون متفقون على أن الله سبحانه وتعالى وصفاته اللازمة لذاته يجوز عليها العدم، وقد اشتهر في اصطلاح المتكلمين تسميته بالقديم، بل غالب
المعتزلة ومن سلك سبيلهم غالب ما يسمونه بالقديم، وإن كان من
المعتزلة وغيرهم من يسميه بالقديم، وإن سماه بالأزلي، وأكثرهم يجعلون القدم أخص وصفه، كما أن الفلاسفة المتأخرين الإلهيين غالب ما يسمونه به "واجب الوجود"، والمتقدمون منهم غالب ما يسمونه به "العلة الأولى" و "المبدأ الأول".
فإذا قرر المقرر أن ما وجب قدمه امتنع عدمه كان من المعلوم أن الرب القديم الواجب الوجود يمتنع عدمه تعالى، وليس عند المسلمين قديم قائم بنفسه غيره، حتى يقال: إنه يمتنع عدمه، والمتفلسفة القائلون بقدم الأفلاك يقولون: إنه يمتنع عدمها، فهذه المقدمة وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يصلح أن يستدل بها من قال بما يناقضها أو بما يستلزم ما يناقضها، فإن نفس ما يستدل به عليها إذا ناقض قوله أمكن
[ ص: 392 ] معارضه أن يبطل حجته بالاعتراض المركب، لا سيما إذا اقتضى فساد قوله على التقديرين.
فمن كان من أصل قوله إن الفاعل المختار له أن يرجح أحد المقدورين على الآخر بلا مرجح أصلا، بمجرد كونه قادرا، أو بمجرد إرادته القديمة، وقدر مع ذلك جسم قديم قادر مختار يقبل الحركة والسكون، كان تحركه بعد سكونه الدائم بمنزلة تحريكه لغيره، فإن أمكن تحريكه لغيره بمجرد كونه قادرا أو بمجرد إرادته أمكن ذلك في هذا الموضع، ولا يمتنع من ذلك إلا أن يقوم دليل على أن الجسم يمتنع قدمه، أو أن القديم يمتنع كونه يتحرك، لكن هؤلاء إذا لم يثبتوا حدوث الجسم أو امتناع تحريك القديم إلا بهذا الدليل لم يمكنهم أن يجعلوا من مقدمات الدليل حدوث الجسم أو امتناع حركة القديم، بل إذا كان حدوث الجسم أو امتناع حركة القديم موقوفا على هذا الدليل كانوا قد صادروا على المطلوب، وجعلوا المطلوب حجة في إثبات نفسه، لكن غيروا العبارات، وداروا الدورات، وهم من موضعهم لم يتغيروا، فلهذا كان من وافقهم وفهم كلامهم حائرا لم يفده علما، ومن لم يفهمه ووافقهم كان جاهلا مقلدا لأقوام جهال ضلال يظهرون أنهم من أعلم الناس بأصول الدين والكلام والعقليات.