فصل
وكذلك يمكن تصوير هذه الأدلة في مادة الحدوث بأن يقال:
الموجودات إما أن تكون كلها حادثة، وهو ممتنع، لأن الحوادث لا بد لها من فاعل، وذلك معلوم بالضرورة، ومحدث الموجودات كلها لا يكون معدوما، وذلك أيضا معلوم بالضرورة، وما خرج عن الموجودات لا يكون إلا معدوما، فلو كانت الموجودات كلها محدثة للزم: إما حدوثها بلا محدث، وإما حدوثها بمحدث معدوم. وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة، فثبت أنه لا بد في الوجود من موجود قديم، وليس كل موجود قديما بالضرورة الحسية، فثبت أن الموجودات تنقسم إلى قديم ومحدث.
وهاتان المقدمتان: وهو أن كل حادث فلا بد له من محدث، وأن المحدث للموجود لا يكون إلا موجودا، مع أنهما معلومتان بالضرورة، فإن كثيرا من أهل الكلام أخذوا يقررون ذلك بأدلة نظرية، ويحتجون على ذلك بأدلة، وهي وإن كانت صحيحة، لكن
[ ص: 105 ] النتيجة أبين عند العقل من المقدمات، فيصير كمن يحد الأجلى بالأخفى، وهذا وإن كان قد يذمه كثير من الناس مطلقا، فقد ينتفع به في مواضع، مثل عناد المناظر ومنازعته في المقدمة الجلية، دون ما هو أخفى منها، ومثل حصول العلم بذلك من الطرق الدقيقة الخفية الطويلة، لمن يرى أن حصول العلم له بمثل هذه الطرق أعظم عنده وأحب إليه، وأنه إذا خوطب بالأدلة الواضحة المعروفة للعامة، لم تكن مزية على العامة، ولمن يقصد بمخاطبته بمثل ذلك، أن مثل هذه الطرق معروف معلوم عندنا، لم ندعه عجزا وجهلا، وإنما أعرضنا عنه استغناء عنه بما هو خير منه، واشتغالا بما هو أنفع من تطويل لا يحتاج إليه، إلى أمثال ذلك من المقاصد.
فأما كون الحادث لا بد له من محدث، فهي ضرورية عند جماهير العلماء، وكثير من متكلمة
المعتزلة ومن اتبعهم جعلوه نظريا، كما سيأتي ذكره بعد هذا.
وأما كون المعدوم لا يكون فاعلا للموجودات فهو أظهر من ذلك، ولذلك اعترف بكونه ضروريا من استدل على أن المحدث لا بد له من محدث موجود، والممكن لا بد له من مؤثر موجود،
كالرازي وغيره.
[ ص: 106 ]