ثم القائلون بأن
كل محدث لا بد له من محدث، منهم من يثبت هذا بالاستدلال على أن الحادث مختص، والتخصص لا بد له من مخصص، ثم من الناس من يثبت هذا بأن المخصوص ممكن، والممكن لا بد له من مرجح لوجوده، ثم من الناس من يثبت هذا بأن نسبة الممكن إلى الوجود والعدم سواء، فلا بد من ترجيح أحد الجانبين.
وكثير من الناس يجعل المقدمة الأولى في هذه القضايا ضرورية، بل يجعلها أبين من الثانية، التي استدل بها عليها، وهذا الاضطراب إنما يقع في القضايا الكلية العامة.
وأما كون هذا البناء لا بد له من بان، وهذه الكتابة لا بد لها من كاتب، وهذا الثوب المخيط لا بد له من خياط، وهذه الآثار التي في الأرض من آثار الأقدام لا بد لها من مؤثر، وهذه الضربة لا بد لها من ضارب، وهذه الصياغة لا بد لها من صائغ، وهذا
[ ص: 122 ] الكلام المنظوم المسموع لا بد له من متكلم، وهذا الضرب والرمي والطعن لا بد له من ضارب ورام وطاعن.
فهذه القضايا المعينة الجزئية لا يشك فيها أحد من العقلاء، ولا يفتقر في العلم بها إلى دليل، وإن كان ذكر نظائرها حجة لها، وذكر القضية التي تتناولها وغيرها حجة ثانية، فيستدل عليها بقياس التمثيل وبقياس الشمول، لكن هي في نفسها معلومة للعقلاء بالضرورة، مع قطع نظرهم عن قضية كلية، كما يعلم الإنسان أحوال نفسه المعينة، فإنه يعلم أنه لم يحدث نفسه، وإن لم يستحضر أن كل حادث لا يحدث بنفسه.
ولهذا كانت
فطرة الخلق مجبولة على أنهم متى شاهدوا شيئا من الحوادث المتجددة، كالرعد والبرق والزلازل، ذكروا الله وسبحوه، لأنهم يعلمون أن ذلك المتجدد لم يتجدد بنفسه بل له محدث أحدثه، وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات، لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفا لهم، بخلاف المتجدد الغريب، وإلا فعامة ما يذكرون الله ويسبحونه عنده من الغرائب المتجددة قد شهدوا من آيات الله المعتادة ما هو أعظم منه، ولو لم يكن إلا خلق الإنسان فإنه من أعظم الآيات، فكل أحد يعلم أنه هو لم
[ ص: 123 ] يحدث نفسه، ولا أبواه أحداثاه، ولا أحد من البشر أحدثه، ويعلم أنه لا بد له من محدث، فكل أحد يعلم أن له خالقا خلقه، ويعلم أنه موجود، حي عليم قدير، سميع بصير، ومن جعل غيره حيا كان أولى أن يكون حيا، ومن جعل غيره عليما كان أولى أن يكون عليما، ومن جعل غيره قادرا كان أولى أن يكون قادرا، ويعلم أيضا أن فيه من الإحكام ما دل على علم الفاعل، ومن الاختصاص ما دل على إرادة الفاعل، وأن نفس الإحداث لا يكون إلا بقدرة المحدث، فعلمه بنفسه المعينة المشخصة الجزئية يفيده العلم بهذه المطالب الإلهية وغيرها، كما قال تعالى:
وفي أنفسكم أفلا تبصرون [سورة الذاريات: 21].