وأما قوله: فلم قلتم: إنه يلزم أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع، فلما ذكرناه من أن
المؤثر التام يستلزم وجود أثره، فإذا قدر أن المؤثر التام في المجموع هو بعض المجموع، لزم أن يكون بعض أجزاء المجموع هو المؤثر في المجموع، فيكون مؤثرا في نفسه وفي غيره.
وهذا ظاهر. فإنه إذا قدر مجموع الممكنات، وقدرنا أن واحدا منها مؤثر في المجموع –أي في كل واحد واحد وفي الهيئة الاجتماعية- لزم أن يكون مؤثرا في نفسه وفي غيره. فيكون بعض أجزاء المجموع موجبا لحصول المجموع المذكور ومن المجموع نفسه، وهذا ممتنع. وأما المجموع المركب من الواجب والممكن، فهناك ليس بعضه مؤثرا في كل واحد واحد وفي الهيئة الاجتماعية. فإن من المجموع الواجب بنفسه لم يؤثر فيه شيء فظهر الفرق.
وأيضا فالواجب مؤثر في الممكن وفي الهيئة الاجتماعية، ليس مؤثرا في نفسه، بخلاف مجموع الممكنات، فإن كل واحد منها لا بد له من مؤثر، والاجتماع لا بد له من مؤثر، فالمجموع مفتقر إلى المؤثر بأي تفسير
[ ص: 258 ] فسر، فإن فسر بالهيئة الاجتماعية فهي متوقفة على الأفراد الممكنة، والمتوقف على الممكن أولى أن يكون ممكنا، مع أن الهيئة الاجتماعية نسبة وإضافة متوقفة على غيرها، فهي أدخل في الإمكان والافتقار من غيرها، وهي من أضعف الأعراض المفتقرة إلى الأعيان إن قدر لها ثبوتا وجوديا، وإلا فلا وجود لها، وإن فسر المجموع بكل واحد واحد، أو فسر بالأمرين بكل واحد واحد وبالاجتماع، أو بغير ذلك بأي شيء فسر، لم يكن إلا ممكنا مفتقرا إلى غيره، وكلما كثرت الإمكانات كثر الافتقار والحاجة.
فإذا قيل: المؤثر في ذلك واحد منها -وهو ممكن- لزم أن يكون الممكن الذي لم يوجد بعد فاعلا لجميع الممكنات، ونفسه من الممكنات، فإن نفسه لا بد له من فاعل أيضا.
وهذا المعترض أخذ المجموع المركب من الواجب والممكن، فعارض به المجموع من الممكنات. ولفظ المجموع فيه إجمال يراد به الاجتماع، ويراد به جميع الأفراد، ويراد به الأمران، فكانت معارضته في غاية الفساد، فإن ذلك المجموع فيه واجب بنفسه لا يحتاج إلى غيره، وما سواه من الأفراد والهيئة الاجتماعية مفعول له، فهذا معقول
[ ص: 259 ] فالله تعالى هو الموجود الواجب بنفسه، خالق لكل ما سواه، وأما الهيئة الاجتماعية إن قدر لها وجود في الخارج فهي حاصلة به أيضا سبحانه وتعالى. وأما المجموع الذي كل منه مفتقر إلى من يبدعه، وليس فيه موجود بنفسه، فيمتنع أن يكون فاعلهم واحدا منهم، لأنه لا بد له من فاعل، فلو كان فاعلهم ما كان فاعل نفسه وغيره من الممكنات، ولزم أن يكون بعض أجزاء الممكنات كافيا في مجموع الممكنات، وإذا كان مجموع الممكنات يمتنع أن يكون فاعلها، فلأن يمتنع أن يكون بعضها فاعلا لها بطريق الأولى، فإن ما يتعذر على المجموع يتعذر على بعضه بطريق الأولى، وما يفتقر إليه المجموع يفتقر إليه بعضه بطريق الأولى. وهذا المعترض أخذ ما يفتقر إليه المجموع لفظا مجملا، فالافتقار قد يكون افتقار المشروط إلى شرطه، وقد يكون افتقار المفعول إلى فاعله. ثم أخذ يورد على هذا وعلى هذا، ونحن نجيب على كل تقدير.