صفحة جزء
وأما قصة إبراهيم الخليل عليه السلام فقد علم باتفاق أهل اللغة والمفسرين أن الأفول ليس هو الحركة، سواء كانت حركة مكانية، وهي الانتقال، أو حركة في الكم كالنمو، أو في الكيف كالتسود والتبيض، ولا هو التغير، فلا يسمى في اللغة كل متحرك أو متغير آفلا، ولا أنه أفل، لا يقال للمصلي أو الماشي إنه آفل، ولا يقال للتغير الذي هو استحالة، كالمرض واصفرار الشمس: إنه أفول، لا يقال للشمس إذا اصفرت: إنها أفلت، وإنما يقال: «أفلت» إذا غابت واحتجبت، وهذا من المتواتر المعلوم بالاضطرار من لغة العرب: أن آفلا بمعنى غائب، وقد أفلت الشمس تأفل وتأفل أفولا: أي: غابت. [ ص: 110 ]

ومما يبين هذا أن الله ذكر عن الخليل أنه لما رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض [الأنعام: 76-79] .

ومعلوم أنه لما بزغ القمر والشمس كان في بزوغه متحركا، وهو الذي يسمونه تغيرا، فلو كان قد استدل بالحركة المسماة تغيرا لكان قد قال ذلك من حين رآه بازغا، وليس مراد الخليل بقوله: هذا ربي رب العالمين، ولا أن هذا هو القديم الأزلي الواجب الوجود، الذي كل ما سواه محدث ممكن مخلوق له، ولا كان قومه يعتقدون هذا حتى يدلهم على فساده، ولا اعتقد هذا أحد يعرف قوله، بل قومه كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأصنام، ويقرون بالصانع.

ولهذا قال الخليل: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [الشعراء: 75-77] وقال: إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون [الزخرف: 26-28] فذكر لهم ما كانوا يفعلونه من اتخاذ الكواكب والشمس والقمر ربا يعبدونه ويتقربون إليه، كما هو عادة عباد الكواكب ومن يطلب تسخير روحانية الكواكب، وهذا مذهب مشهور، ما زال [ ص: 111 ] عليه طوائف من المشركين إلى اليوم، وهو الذي صنف فيه الرازي «السر المكتوم» وغيره من المصنفات.

فإن قال المنازعون: بل الخليل إنما أراد أن هذا رب العالمين.

قيل: فيكون إقرار الخليل حجة على فساد قولكم، لأنه حينئذ يكون مقرا بأن رب العالمين قد يكون متحيزا متنقلا من مكان إلى مكان، متغيرا، وإنه لم يجعل هذه الحوادث تنافي وجوده، وإنما جعل المنافي لذلك أفوله، وهو مغيبه، فتبين أن قصة الخليل إلى أن تكون حجة عليهم أقرب من أن تكون حجة لهم، ولا حجة لهم فيها بوجه من الوجوه.

وأفسد من ذلك قول من جعل الأفول بمعنى الإمكان، وجعل كل ما سوى الله آفلا، بمعنى كونه قديما أزليا، حتى جعل السماوات والأرض والجبال والشمس والقمر والكواكب لم تزل ولا تزال آفلة، وأن أفولها وصف لازم لها، إذ هو كونها ممكنة، والإمكان لازم لها، فهذا مع كونه افتراء على اللغة والقرآن افتراء ظاهرا يعرفه كل أحد، كما افتري غير ذلك من تسمية القديم الأزلي محدثا، وتسميته مصنوعا - فقصة الخليل حجة عليه، فإنه لما رأى القمر بازغا قال: هذا ربي، ولما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربي

فلما أفلت قال: لا أحب الآفلين فتبين أنه أفل بعد أن لم يكن آفلا، فكون الشمس والقمر والكواكب وكل ما سوى الله ممكنا هو وصف لازم له، لا يحدث له بعد أن لم يكن. [ ص: 112 ]

وهم يقولون: إمكانه له من ذاته، ووجوده من غيره؛ بناء على تفريقهم في الخارج بين وجود الشيء وذاته، فالإمكان عندهم أولى بذاته من الوجود، ولو قال: فلما وجدت أو خلقت أو أبدعت قال: لا أحب الموجودين والمخلوقين، كان هذا قبيحا متناقضا، إذ لم يزل كذلك، فكيف إذا قال: فلما صارت ممكنة، وهي لم تزل ممكنة.

وأيضا فهي من حين بزغت وإلى أن أفلت ممكنة بذاتها تقبل الوجود والعدم، مع كونها عندهم قديمة أزلية يمتنع عدمها، وحينئذ يكون كونها متحركة ليس بدليل عند إبراهيم على كونها ممكنة تقبل الوجود والعدم.

التالي السابق


الخدمات العلمية