فإذا
قيل: ما افتقر إلى سبب أو ما افتقر إلى فاعل، أو ما افتقر إلى [ ص: 371 ] علم افتقر إلى مخصص، وما لم يفتقر إلى شيء من ذلك لم يفتقر، كان هذا كلاما معقولا.
بخلاف ما إذا قيل: المفتقر إلى الفاعل لا يفتقر إلى مخصص، والغني عن الفاعل يفتقر إلى مخصص، فإن هذا قلب للحقيقة، كما قالته
المعتزلة الجهمية القدرية من نفي افتقار الأفعال إلى مخصص، وإثبات افتقار الذات إلى مخصص- قلب للحقائق.
وأفسد منه قول الفلاسفة الذين يثبتون مفعولات مختلفة مع حدوث كثير منها، ويقولون: إن مخصصها مجرد وجود بسيط، ثم يصفونه بصفات تفيد اختصاصه بما يتميز به عن سائر الموجودات، ويقولون مع ذلك: الاختصاص لا بد له من مخصص مباين له، ثم العلم فيه من العموم ما ليس في القدرة، وفي القدرة من العموم ما ليس في الإرادة.
والمتفلسفة نفوا الاختصاص حتى أثبتوا وجودا مطلقا مجردا، ثم أثبتوا له من اللوازم ما يوجب الاختصاص، مثل كونه وجودا واجبا، وذلك يميزه عن الوجود الممكن، وجعلوه عاقلا ومعقولا وعقلا، وعاشقا ومعشوقا وعشقا، وملتذا وملتذا به، وأنواع ذلك مما يوجب اختصاصه بهذه الأمور عمن ليس هو موصوفا بها من الجمادات.
وقالوا: صدر عنه العالم المختص بما له من الصفات والأقدار من غير موجب للتخصيص، فهل في الوجود أعظم من هذا التناقض؟
[ ص: 372 ] وهو أن يكون وجود مطلق لا اختصاص فيه يوجب كل اختصاص في الوجود من غير سبب يوجب التخصيص؟
وهؤلاء ينكرون على من أثبت من أهل الكلام الحوادث بلا سبب حادث، ثم يثبتون الحوادث بلا محدث، ويثبتون التخصيصات في الموجودات بلا مخصص أصلا، وهو شبيه بقول من يجعل الممكن الذي ليس له من نفسه وجود يوجد بلا واجب بنفسه.
ومن وافق هؤلاء من
الكلابية في بعض الأمور يثبت صفات معدودة يختص بها، ويجعل لها خصائص، ثم يطلب المخصص لغير تلك الصفات. ولهذا كان منتهى من سلك هذه السبيل إلى أن يثبت وجودا، ثم مطلقا، ثم يتناقض أعظم من تناقض غيره، وذلك لأن كل موجود فمختص بما هو من خصائصه، سواء كان واجبا أو ممكنا، فطلب الذهن شيئا مطلقا لا اختصاص له بشيء يميزه عن غيره طلب ما هو ممتنع لذاته، فمن وصف الواجب بذلك فقد وصفه بصفة الممتنع لذاته، وهذا نهاية هؤلاء، وهو الجمع بين النقيضين.
ثم يقول من يقول من متصوفتهم أنه يجوز الجمع بين النقيضين، وأنه يثبت في الكشف ما يناقض صريح العقل.