وذلك أن
القائل إذا قال: ما لا يسبق الحوادث فهو حادث فله معنيان: أحدهما أنه لا يسبق الحادث المعين، أو الحوادث المعينة أو المحصورة، أو الحوادث التي يعلم أن لها ابتداء، فإذا قدر أنه أريد بالحوادث كل ما له ابتداء، واحدا كان أو عددا، فمعلوم أنه ما لم يسبق هذا أو لم يخل من هذا لا يكون قبله، بل لا يكون إلا معه أو بعده، فيكون حادثا.
وهذا مما لا يتنازع فيه عاقلان يفهمان ما يقولان.
وليس هذا مورد النزاع، ولكن مورد النزاع هو: ما لم يخل من الحوادث المتعاقبة التي لم تزل متعاقبة، هل هو حادث؟ وهو مبني على أن هذا هل يمكن وجوده أم لا؟ فهل يمكن وجود حوادث متعاقبة شيئا بعد شيء دائمة لا ابتداء
[ ص: 122 ] لها ولا انتهاء؟ وهل يمكن أن يكون الرب متكلما لم يزل متكلما إذا شاء؟ وتكون كلماته لا نهاية لها، لا ابتداء ولا انتهاء، كما أنه في ذاته لم يزل ولا يزال لا ابتداء لوجوده ولا انتهاء له؟ بل
هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، فهو القديم الأزلي الدائم الباقي بلا زوال، فهل يمكن أن يكون لم يزل متكلما بمشيئته، فلا يكون قد صار متكلما بعد أن لم يكن، ولا يكون كلامه مخلوقا منفصلا عنه، ولا يكون متكلما بغير قدرته ومشيئته، بل يكون متكلما بمشيئته وقدرته، ولم يزل كذلك، ولا يزال كذلك.
هذا هو مورد النزاع بين السلف والأئمة الذين قالوا بذلك، وبين من نازعهم في ذلك.
والفلاسفة يقولون: إن الفلك نفسه قديم أزلي لم يزل متحركا، لكن هذا القول باطل من وجوه كثيرة.
ومعلوم بالاضطرار أن هذا مخالف لقولهم، ومخالف لما أخبر به القرآن والتوراة وسائر الكتب، بخلاف كونه لم يزل متكلما أو لم يزل فاعلا أو قادرا على الفعل، فإن هذا مما قد يشكل على كثير من الناس سمعا وعقلا.
وأما كون السماوات والأرض مخلوقتين محدثتين بعد العدم، فهذا إنما نازع فيه طائفة قليلة من الكفار
كأرسطو وأتباعه.