ولو قال قائل :
إن الحروف المجتمعة هي حرف واحد في الحقيقة ، وإنما الحروف المتفرقة صفات للحرف لا أقسام له ، كان هذا شبيها بقول من يقول: إن تلك المعاني المتنوعة معنى واحد .
وذلك أنه من المعلوم بالاضطرار أن الحروف المنتظمة مطابقة لمعانيها المدلول عليها بها ، تحدث بحدوثها في نفس المتكلم .
وإذا قال القائل: إن الحروف متضادة يمتنع اجتماع اثنين منها في محل واحد ، أمكن أن يقال : إن المعاني متضادة يمتنع اجتماع اثنين في محل واحد .
فإن غاية ما يقال: إن محل المعاني واحد بخلاف محل الحروف
[ ص: 114 ] فإنه متعدد لكن تعدد المحل واتحاده لا ينفي التضاد ، فإن المثلين متضادان، وإن كانا متماثلين في الحقيقة والمحل ، فالباء والتاء تتضادان أعظم من تضاد الباء والحاء ، إذ الحرفان اللذان يتعدد محلهما يمكن اجتماعهما ، بخلاف ما يتحد محلهما ، والضدان إنما يمتنع اجتماعهما في محل واحد لا في محلين .
فإذا قدر أن الحروف لا تكون إلا في محل واحد كانت بمنزلة معانيها التي لا تكون إلا في محل واحد . وإذا قدر أن لها محلين أمكن اجتماعها ، كما تجتمع أصوات المتكلمين جميعا .
لكن الواحد منا لا يقدر على ذلك، لكون حركة بعض آلاته مستلزما لحركة الآخر ، وإلا فلو قدر أنا يمكننا تحريك الجميع، كالذي ينفخ بيديه: في هذه نفاخة، وفي هذه نفاخة ، أمكن اجتماع الحروف واجتماع الأصوات في زمن واحد مع تعدد المحل . وإنما الذي يظهر امتناعه اجتماع حرفين في محل واحد في زمن واحد .
ولكن هذا قد يقال فيه: إنه بمنزلة معاني الكلام ، فإن الواحد منا يجد من نفسه أنه لا يمكنه جمع معاني الكلام في زمن واحد في قلبه .
وإذا كان كذلك فمن قال باجتماع المعاني لزمه ما يلزم من قال
[ ص: 115 ] باجتماع الحروف ، فكيف من قال : إن المعاني تكون معنى واحدا !
والفضلاء من
أصحاب الأشعري يعترفون بضعف لوازم هذا القول ، مع نصرهم لكثير من أقواله الضعيفة .