وأيضا فقد يقول
الكرامية وأمثالهم : إن محل هذه الحروف والأصوات ليس هو بعينه محل الأخرى ،
والله واسع عظيم ، لا يحيط العباد به علما ، ولا تدركه أبصارهم .
وبالجملة فالناس متنازعون في إمكان اجتماع الحروف، وإمكان
[ ص: 126 ] قدمها ، والنزاع في ذلك قديم ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري في "المقالات". وأصحاب أحمد متنازعون في ذلك ، وكذلك أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، وغيرهم من الطوائف. وكذلك
أهل الحديث والصوفية .
وحينئذ فيقال : إما أن يكون ذلك ممتنعا، وإما أن يكون ممكنا . فإن كان ممتنعا لم يكن ظهور امتناعه أعظم من ظهور امتناع قول
الكلابية، الذي يوجب قدم المعاني المتنوعة ، التي هي مدلول العبارات المنتظمة ، ويجعلها مع ذلك معنى واحدا . فإن الألفاظ قوالب المعاني ، ونحن كما لا نعقل الحروف إلا متوالية متعاقبة ، فلا تعقل معانيها إلا كذلك. وبتقدير أن نعقل اجتماع معانيها ، فهي معان متنوعة ليست شيئا واحدا .
ولهذا لما قالت
الكلابية لهؤلاء : الحروف متعاقبة ، والسين بعد الباء وذلك يمنع قدمها .
أجابوهم بثلاثة أجوبة -كما ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12737ابن الزاغوني- وقالوا: هذا معارض بمعاني الحروف فإنها متعاقبة عندنا، وأنتم تقولون بقدمها .
الثاني: أن التعاقب والترتيب نوعان : أحدهما ترتيب في نفس الحقيقة ، والثاني ترتيب في وجودها ، فإذا كانت موجودة شيئا بعد شيء كان الثاني حادثا، وأما الترتيب الذاتي العقلي فهو بمنزلة كون
[ ص: 127 ] الصفات تابعة للذات . وكون الإرادة مشروطة بالعلم ، والعلم مشروطا بالحياة .
وادعوا أن تقدم الحروف من هذا الباب. وهذا الذي يقال له تقدم بالطبع ، وهو تقدم الشرط على المشروط، كتقدم الواحد على الاثنين، وجزء المركب على جملته، ومثل هذا الترتيب لا يستلزم عدم الثاني عند وجود الأول .
فقول هؤلاء إن كان باطلا ، فكون العلم هو الحياة ، والحياة هي الإرادة ، ومعنى القرآن هو معنى التوراة ، ومعنى آية الكرسي وقل هو الله أحد هو معنى آية الدين وتبت يدا
أبي لهب -هو باطل أيضا، سواء كان مثله في البطلان ، أو أخفى بطلانا منه، أو أظهر بطلانا منه .
وحينئذ فيقال : هب أن قول
السالمية والكرامية باجتماع الحروف محال ، فقول
الكلابية أيضا محال ، فلا يلزم من بطلان ذاك صحة هذا . وقول
المعتزلة والفلاسفة أبطل من الكل .
وحينئذ فيكون الحق هو القول الآخر ، وهو أنه لم يزل متكلما بحروف متعاقبة لا مجتمعة . وهذا يستلزم قيام الحوادث به ، فمن قال بهذا لم يكن تناقض الكرامية حجة عليه ، ولم يلزم من بطلان قولهم بطلان هذا الأصل، وإن كان اجتماع الحروف ممكنا بطل أصل الاعتراض .
[ ص: 128 ]
ومعلوم أن القسمة العقلية أربعة لأن الحروف : إما أن يمكن قدم أعيانها ، وحينئذ يلزم إمكان اجتماعها ، وإما أن لا يمكن قدم أعيانها ، بل قدم أنواعها ، وإما أن لا يمكن قدم أعيانها ولا أنواعها .