قلت : فهذا قوله مع اطلاعه على طرق القائلين بالتجانس ورغبته في نصرهم لو أمكنه ، فذكر أن جميع ما ذكروه من الطرق يرجع إلى ما ذكره ، وهو مما يعلم بالاضطرار أنه لا يدل على تماثلها ، بل يدل على اشتراكها في معنى من المعاني ، وليس
جعل ما به الاشتراك هو الذات وما به الاختلاف من الصفات بأولى من العكس ، وهذا على سبيل التنزل، وإلا فنحن نعلم بالضرورة والحس اختلاف الأجسام المختلفة ، كما نعلم اختلاف الأعراض المختلفة ، وما ذكره من أن الاختلاف عائد إلى الأعراض ، لا إلى المعروض ، فمخالفة للحس ، فإن نفس النار مخالفة للماء، ليس مجرد حرارة النار هي المخالفة لبرودة الماء ، بل
[ ص: 180 ] نحن نعلم أن النار تخالف الماء أعظم مما نعلم أن الحرارة تخالف البرودة وذلك أن الحرارة والبرودة بينهما من الاشتراك في الكيفيات ، مثل كون كل منهما عرضا قائما بغيره ، وهو صفة محسوسة بالمس ، وكذلك بين السواد والبياض من الاشتراك في العرضية واللونية ، والقيام بالغير ، والرؤية بالبصر ، وغير ذلك من الصفات أعظم من الاشتراك بين الماء والنار ، فإن الاشتراك بينهما هو في القدر ونحو ذلك من الكميات ، والاشتراك في الكيفية أعظم من الاشتراك في الكمية ، فإذا كان ذلك لا يوجب التماثل ، فذاك بطريق الأولى .
وأيضا فالحرارة قد تنكسر بالبرودة في مثل الفاتر ، فإنه لا يبقى حارا كحرارة النار ، ولا باردا برودة الماء المحض ، وأما نفس الماء والنار فلا يجتمعان .
وأيضا فالأعراض المختلفة تشترك في محل واحد، وأما نفس الأقسام فلا تشترك في محل واحد ، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا بيان اعتراف هؤلاء بفساد الأصول التي بنوا عليها ما خالفوه من النصوص ، وبيان تناقضهم في ذلك ، وأنهم يقولون إذا تكلموا في المنطق وغيره بما يناقض كلامهم هنا، ويبعد -أو يمتنع في العادة- أن يكون هذا لمجرد اختلاف الاجتهاد ، مع الفهم التام في الموضعين ، بل يكون لنقص كمال الفهم والتصور ، وخوفا أن لا يكون القولان متنافيين، فلا يهجم بإثبات التناقض ، أو لنوع من الهوى
[ ص: 181 ] والغرض ، ولو لم يكن إلا مراعاة الطائفة التي يتكلم باصطلاحها أن لا يخالفها فيما هو من مشهورات أقوالها . ولعل كلا الأمرين موجود في مثل هذه المعاني التي تعبر عنها العبارات الهائلة ، ولها عند أصحابها هيبة ووهم عظيم ، والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا نوع تنبيه على أن ما يدعونه من العقليات المخالفة للنصوص لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح ، وإنما هي من باب القعقعة بالشنان لمن يفزعه ذلك من الصبيان ، ومن هو شبيه بالصبيان، وإذا أعطي النظر في المعقولات حقه من التمام ، وجدها براهين ناطقة بصدق ما أخبر به الرسول ، وأن لوازم ما أخبر به لازم صحيح ، وأن من نفاه لجهله بحقيقة الأمر ، وفزعا باطنا وظاهرا كالذي يفزع من الآلهة المعبودة من دون الله أن تضره، ويفزع من عدو الإسلام لما عنده من ضعف الإيمان .
قال تعالى عن
الخليل صلوات الله عليه:
وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون [سورة الأنعام 80 – 81] ،
[ ص: 182 ] قال الله تعالى:
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [سورة الأنعام 82] .
ومن خالف الرسل لا يسلم من الشرك والإفك:
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين [سورة الصافات 180 – 182]
إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين [سورة الأعراف 152]. قال
أبو قلابة : هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة .
وما أشبه هؤلاء في رعبهم من الألفاظ الهائلة التي لم يعلموا حقيقتها بمن رأى العدو المخذول ، فلما رأى لباسهم رعب منهم قبل تحقق حالهم ، ومن كشف حالهم وجدهم في غاية الضعف والعجز . ولكن قال تعالى :
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا [سورة آل عمران 151] .
وبسط هذا يطول ، والمقصود التنبيه. فهذا ما ذكره في الجوهر ، وأما الجسم فإنه اعتمد في نفيه على هذه الوجوه الأربعة في الجوهر، وقد عرف حالها .