صفحة جزء
ونحن نذكر ما يحضر من إبطالها بالكلام على مقدماتها والمواضع التي ينازعه فيها الناس :

الأول: قوله : "لو كان جسما لكان له بعد وامتداد" فإن هذا مما نازعه فيه طائفة ممن يقول: هو جسم ، وهو مع ذلك واحد لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه، فلا يشار إلى شيء منه دون شيء ، فإن هذا معروف عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم. والرازي قد ذكر ذلك عن بعضهم، لكنه ادعى أن هذا القول لا يعقل ، وأن فساده معلوم بالضرورة .

وكذلك قول من قال: إنه فوق العرش، وإنه مع ذلك ليس بجسم ، كما يذكر ذلك عن الأشعري ، وكثير من أهل الكلام والحديث والفقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم ، وهو قول القاضي أبي يعلى وأبي الحسن الزاغوني ، وقول أبي الوفاء بن عقيل في كثير من كلامه ، وهو قول أبي العباس القلانسي ، وقبله أبو محمد بن كلاب وطوائف غير هؤلاء .

فإذا قال القائل : كونه جسما مع كون غير منقسم، أو كونه فوق العرش مع كونه غير جسم -مما يعلم فساده بضرورة العقل . [ ص: 210 ]

فيقال : ليس العلم بفساد هذا بأظهر من العلم بفساد قول من قال: إنه موجود قائم بنفسه، فاعل لجميع العالم ، وأنه مع ذلك لا داخل في العالم ولا خارج عنه، ولا حال فيه ولا مباين له، لا سيما إذا قيل مع ذلك: إنه حي عالم قادر، وقيل مع ذلك: ليس له حياة ولا علم ولا قدرة ، أو قيل : هو عاقل ومعقول وعقل ، وعاشق ومعشوق وعشق ، وأن العلم والحب نفس العالم المحب، ونفس الحب هو نفس العلم ، أو قيل مع ذلك: إنه حي بحياة ، عليم بعلم، قدير بقدرة ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، متكلم بكلام. وقيل مع ذلك: إنه لا داخل في مخلوقاته ولا خارج عنها ، ولا حال فيها ولا مباين لها ، وأن إرادته لهذا المراد هو إرادته لهذا المراد ، ونفس رؤيته لهذا هو نفس رؤيته لهذا، ونفس علمه بهذا هو نفس علمه بهذا ، وأن الكلام معنى واحد بالعين، فمعنى آية الكرسي وآية الدين، وسائر القرآن والتوراة والإنجيل، وسائر ما تكلم به -هو شيء واحد، فإن كانت هذه الأقوال مما يمكن صحتها في العقل، فصحة قول من قال: هو فوق العرش وليس بجسم ، أو هو جسم وليس بمنقسم- أقرب إلى العقل .

وإن قيل : بل هذا القول باطل في العقل. فيقال: تلك أبطل في العقل، ومتى بطلت تلك صح هذا .

وإذا قيل: النافي لإمكان تلك الأمور هو الوهم [لا العقل]، [ ص: 211 ] وإلا فالعقل يجوز وجود ما ذكر. قيل : والنافي لإمكان هذا هو الوهم ، وإلا فالعقل يجوز وجود ما ذكر. وإذا قيل: البرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم . قيل: والبرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم هنا .

ومن تأمل هذا وجده من أصح المعارضة وأبين التناقض في كلام هؤلاء النفاة ، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع .

الوجه الثاني: قوله : "وإذا كان له بعد وامتداد ، فإما أن يكون غير متناه ، وإما أن يكون متناهيا" .

فيقال: من الناس من يقول: إنه غير متناه ، وهؤلاء منهم من يقول: جسم، ومنهم من يقول: غير جسم . وقد حكى القولين أبو الحسن الأشعري في "المقالات"، وحكاهما غيره أيضا . ومن الناس من قال: هو متناه من بعض الجهات ، وهذا مذكور عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم، وقد قاله بعض المنتسبين إلى الطوائف الأربعة من الفقهاء ، كما ذكره القاضي أبو يعلى في "عيون المسائل"، فإن هذه الأقوال يوجد عامتها في بعض أتباع الأئمة: منها ما يوجد في بعض أصحاب أبي حنيفة، ومنها ما يوجد في بعض أصحاب مالك ، ومنها ما يوجد في بعض أصحاب الشافعي، ومنها ما يوجد في بعض أصحاب أحمد ، ومنها ما يوجد في بعض أصحاب اثنين أو ثلاثة أو الأربعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية