الوجه الرابع : أن يقال: قول القائل: إن المركب مفتقر إلى كل
[ ص: 223 ] واحد من تلك الأجزاء: أتعني بالمركب تلك الأجزاء ، أو تعني به اجتماعها، أو الأمرين ، أو شيئا رابعا؟ فإن عنيت الأول كان المعنى أن تلك الأجزاء مفتقرة إلى تلك الأجزاء، وكان حاصله أن الشيء المركب مفتقر إلى المركب ، وأن الشيء مفتقر إلى نفسه ، وأن الواجب بنفسه مفتقر إلى الواجب بنفسه .
ومعلوم أن الواجب بنفسه لا يكون مستغنيا عن نفسه ، بل وجوبه بنفسه يستلزم أن نفسه لا تستغني عن نفسه . فما ذكرتموه من الافتقار هو تحقيق لكونه واجبا بنفسه ، لا مانع لكونه واجبا بنفسه .
وإن قيل: إن المركب هو الاجتماع، الذي هو اجتماع الأجزاء وتركبها .
قيل: فهذا الاجتماع هو صفة وعرض للأجزاء، لا يقول عاقل : إنه واجب بنفسه دون الأجزاء ، بل إنما يقال: هو لازم للأجزاء ، والواجب لنفسه هو الذات القائمة بنفسها، وهي الأجزاء لا مجرد الصفة التي هي نسبة بين الأجزاء، وإذا لم يكن هذا هو نفس الذات الواجبة بنفسها وإنما هو صفة لها ، فالقول فيه كالقول في غيره مما سميتموه أنتم أجزاء ، وغايته أن تكون بعض الأجزاء
[ ص: 224 ] مفتقرة إلى سائرها ، وليس هذا هو افتقار الواجب بنفسه إلى جزئه .
وإن قيل: إن المركب هو المجموع، أي الأجزاء واجتماعها، فهذا من جنس أن يقال: المركب هو الأجزاء ، لكن على هذا التقدير صار الاجتماع جزءا من الأجزاء .
وحينئذ فإذا قيل : هو مفتقر إلى الأجزاء، كان حقيقته أنه مفتقر إلى نفسه ، أي لا يستغني عن نفسه ، وهذا حقيقة وجوبه بنفسه ، لا مناف لوجوبه بنفسه . وإن عنيت به شيئا رابعا، فلا يعقل هنا شيء رابع، فلا بد من تصويره .
ثم هذا الكلام عليه . وإن قال : بل المجموع يقتضي افتقاره إلى كل جزء من الأجزاء .
قيل: افتقار المجموع إلى ذلك الجزء كافتقاره إلى سائر الأجزاء ، وذلك [الجزء] وسائر الأجزاء هي المجموع، فعاد [الأمر] إلى أنه مفتقر إلى نفسه .
فإن قيل : فأحد الجزأين مفتقر إلى الآخر ، أو قيل : الجملة مفتقرة إلى كل جزء إلى آخره .
قيل: أولا: ليس هذا هو حجتكم، فإنما ادعيتم افتقار الواجب بنفسه إلى جزئه .
[ ص: 225 ]
وقيل : ثانيا : إن عنيت بكون أحد الجزأين مفتقرا إلى الآخر: أن أحدهما فاعل للآخر أو علة فاعلة له ، فهذا باطل بالضرورة ، فإن المركبات الممكنة ليس أحد أجزائها علة فاعلة للآخر ، ولا فاعلا له باختياره، فلو قدر أن في المركبات ما يكون جزؤه فاعلا لجزئه، لم يكن كل مركب كذلك، فلا تكون القضية كلية، فلا يجب أن يكون مورد النزاع داخلا فيما جزؤه مفتقر إلى جزئه، فكيف إذا لم يكن في بعض أجزائه علة فاعلة للجزء الآخر؟
وإن عنيت أن أحد الجزأين لا يوجد إلا مع الجزء الآخر، فهذا إنما فيه تلازمهما، وكون أحدهما مشروطا بالآخر ، وذلك دور معي اقتراني ، وهو ممكن صحيح لا بد منه في كل متلازمين ، وهذا لا ينافي كون المجموع واجبا بالمجموع .
وإذا قيل في كل من الأجزاء: هل هو واجب بنفسه أم لا؟
قيل: إن أردت : هل هو مفعول معلول لعلة فاعلة أم لا؟ فليس في الأجزاء ما هو كذلك ، بل كل منها واجب بنفسه بهذا الاعتبار، وإن عنيت أنه هل فيها ما يوجد بدون وجود الآخر،
[ ص: 226 ] فليس فيها ما هو مستقل دون الآخر ، ولا هو واجب بنفسه بهذا الاعتبار ، والدليل دل على إثبات واجب بنفسه غني عن الفاعل والعلة الفاعلة، لا على أنه لا يكون شيء غني عن الفاعل مستلزما للوازم .
فلفظ "الواجب بنفسه" فيه إجمال واشتباه ، دخل بسببه غلط كثير . فما قام عليه البرهان من إثبات الواجب بنفسه ليس هو ما فرضه هؤلاء النفاة ، فإن الممكن هو الذي لا يوجد إلا بموجد يوجده ، والواجب هو الذي يكون وجوده بنفسه ، لا بموجد يوجده،
فكونه موجودا بنفسه مستلزما للوازم، لا ينافي أن يكون ذاتا متصفة بصفات الكمال، وكل من الذات والصفات ملازم للآخر، وكل من الصفات ملازمة للأخرى، وكل ما يسمى جزءا فهو ملازم للآخر .
وإذا قيل : هذا فيه تعدد الواجب .
قيل: إن أردتم تعدد الإله الموجود بنفسه الخالق للممكنات، فليس كذلك ، وإن أردتم تعدد معان وصفات له ، أو تعدد ما سميتموه أجزاء له، فلم قلتم: إنه إذا كان كل من هذه واجبا بنفسه ، أي هو موجود بنفسه لا بموجد يوجده، مع أن وجوده ملزوم لوجود
[ ص: 227 ] الآخر يكون ممتنعا؟ ولم قلتم: إن ثبوت معنيين ، أو شيئين واجبين متلازمين، يكون ممتنعا؟
وهذا كما تقوله
المعتزلة: إنكم إذا أثبتم الصفات قلتم بتعدد القديم .
فيقال لهم : إن قلتم: إن ذلك يتضمن تعدد آلهة قديمة خالقة للمخلوقات، فهذا التلازم باطل .
وإن قلتم: يستلزم تعدد صفات قديمة للإله القديم .
فلم قلتم: إن هذا محال ؟
فعامة ما يلبس به هؤلاء النفاة ألفاظ مجملة متشابهة، إذا فسرت معانيها، وفصل بين ما هو حق منها وبين ما هو باطل زالت الشبهة، وتبين أن الحق الذي لا محيد عنه هو قول أهل الإثبات للمعاني والصفات .