الوجه السابع : أن يقال : قولك :
"إن المركب الواجب بنفسه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه، ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه، وكل منها غير مفتقر إليه" كلام باطل، وهو بالعكس أولى .
وذلك أن ما قدر أنه جزء: إذا كانغير مفتقر إليه لزم أن يكون واجبا بنفسه، وإذا كان واجبا بنفسه، فإما أن يكون مستقلا لا يتوقف على وجود الجزء الآخر ولا الجملة، أو لا بد له من ذلك ، فإن كان مستقلا بنفسه لا يتوقف على جزء آخر ولا على المجموع، لزم تعدد الأمور الواجبة بنفسها المستقلة، التي يستغني بعضها عن بعض، ولا يتوقف واحد منها على الآخر [ولا على الجملة] .
ومعلوم أنه إذ كان هذا جائزا لزم أن يكون هناك مجموع كل منه واجب بنفسه ، والمجموع واجب بتلك الواجبات، فإذا قدر تعدد الواجب بنفسه كان هذا مبطلا لأصل هذا الكلام، فضلا عن فروعه .
[ ص: 231 ]
ومع تقدير تعدده يمتنع عدم تعدده، فيكون الدليل الذي استدل به على نفي التركيب مستلزما لثبوت التركيب، فيكون دليله يدل على نقيض مطلوبه ، وهذا أبلغ ما يكون في بطلان قوله .
وإن قدر أن للمجموع حقيقة غير تلك الأفراد فإن ما لزم الواجب كان واجبا، ويبقى حينئذ الكلام في أن المجموع إن كان زائدا على العدد إنما وجوبه بالعدد نزاع لا فائدة فيه ، فإنه إذا قدر عشرة كل منهم واجب بنفسه، لزم أن تكون العشرة واجبة قطعا ، وإذا كان كل من العشرة لا يقبل العدم لنفسه،فالعشرة لا تقبل العدم بطريق الأولى والأحرى .
وانضمام الواجب بنفسه إلى الواجب بنفسه: إذا قدر ذلك، لا يوجب ضعفا لأحدهما ، بل نفس ذلك الاجتماع هو من لوازم وجودهما بطريق الأولى والأحرى. وإذا قدر أن اتصال بعضها ببعض من لوازم وجودها الواجب بنفسه لم يكن ممتنعا ، فإن الواجب بنفسه على هذا التقدير لا يمتنع أن يكون له لوازم وملزومات واجبة .
[ ص: 232 ]
ومن العجب أن هؤلاء القوم، كهذا وأمثاله من الخائضين في واجب الوجود على طريقة
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا وأمثاله، الذين جعلوا التركيب عمدتهم في نفي ما ينفونه، يوردون في طريق إثبات واجب الوجود أسولة تفسد ما ذكروه في انتفاء التركيب بالضرورة ، وهي لا تفسد امتناع التسلسل، وهم مع ذلك يوردونها في طريق إثباته إشكالا على إبطال القول بالتسلسل، الذي جعلوه مقدمة من مقدمات إثباته، حتى يبقوا دائما في نصرة التعطيل بالباطل ، وهم إذا نصروا الإثبات ببعض ما نصروا به التعطيل ، كان فيه كفاية وبيان لفساد التعطيل .
وبيان ذلك: أنهم لما أثبتوا واجب الوجود جعلوا إثباته موقوفا على إبطال التسلسل ، لما قالوا: إن الممكن لا بد له من مرجح مؤثر ، ثم إما أن يتسلسل الأمر حتى يكون لكل ممكن مرجح ممكن، فتتسلسل العلل والمعلولات الممكنة ، أو ينتهي الأمر إلى واجب لنفسه ثم قالوا : لم لا يجوز أن يكون التسلسل جائزا ؟ كما قد تكلم على هذا في غير هذا الموضع .
ومن أعظم أسولتهم قولهم: لم لا يكون المجموع واجبا بأجزائه المتسلسلة ، وكل منها واجب بالآخر ؟ وهذا السؤال ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي، [ ص: 233 ] وذكر أنه لا يستطيع أن يجيب عنه ، ومضمونه: وجوب وجود أمور ممكنة بنفسها، ليس فيها ما هو موجود واجب بنفسه، لكن كل منها معلول للآخر ، والمجموع معلول بالأجزاء .
ومن المعلوم أنا إذا فرضنا مجموعا واجبا بأجزائه الواجبة التي لا تقبل العدم، كان أولى في العقل من مجموع يجب بأجزاء كل منها ممكن لا يوجد بنفسه ، فإن المحتاج إلى الممكنات أولى بالإمكان. أما الذي يكون وجوده لازما للواجبات فلا يمكن عدمه .
والعقل الصريح الذي لم يكذب قط يعلم أن المركب المجموع من أجزاء كل منها ممكن لا وجود له بنفسه هو أيضا ممكن لا وجود له، وأما المركب من أجزاء كل منها واجب بنفسه ، فإنه لا يمتنع كونه واجبا بنفسه ، أي بتلك الأجزاء التي كل منها واجب .
وإذا قيل : الاجتماع نفسه مفتقر إلى تلك الأجزاء التي كل منها واجب بنفسه. كان ذلك نزاعا لفظيا .
والمقصود أن العقل يصدق بإمكان هذا ولا يصدق بإمكان أجزاء كل منها ممكن ، والمجموع واجب بها. وهؤلاء قلبوا الحقائق العقلية:
[ ص: 234 ] فقالوا : إذا اجتمعت واجبات بأنفسها صارت ممكنة، وإذا اجتمعت ممكنات بأنفسها صارت واجبة، فإذا
تكلموا في نفي الصفات الواجبة لله، جعلوا كون المركب يستلزم أجزاءه موجبا لامتناع المركب الذي جعلوه مانعا من العلو والتجسيم ومن ثبوت الصفات ، ولا يوردون على أنفسهم ما أوردوه في إثبات واجب الوجود ، وإيراده هنا أولى لأن فيه مطابقة لسائر أدلة العقل، مع تصديق ما جاءت به الرسل، وما في ذلك من
إثبات صفات الكمال لله تعالى ، بل وإثبات حقيقته التي لا يكون موجودا إلا بها ، فكان يمكنهم أن يقولوا: لم لا يجوز أن يكون المجموع الواجب، أو المركب الواجب، أو الجملة الواجبة واجبة بوجوب كل جزء من أجزائها، التي هي واجبة بنفسها لا تقبل العدم ؟
وكان هذا خيرا من أن يقولوا : لم لا يجوز أن يكون المجموع الذي كل من أجزائه ممكن بنفسه، هو واجبا بنفسه ، أو واجبا بأجزائه ؟
وهذا
nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي -مع أنه من أفضل من تكلم من أبناء جنسه في هذه الأمور، وأعرفهم بالكلام والفلسفة- اضطرب وعجز عن الجواب عن
[ ص: 235 ] الشبهة الداحضة القادحة في إثبات واجب الوجود، هو دائما يحتج بنظيرها الذي هو أضعف منها، على نفي العلو وغيره من الأمور الثابتة بالشرع والعقل ، ويقول : إن ذلك يستلزم التجسيم ، وإن المخالفين في الجسم جهال .
ولو أعطى النظر حقه ، لعلم أن الجهل المركب ، فضلا عن البسيط، أجدر بمن سلك مثل تلك الطريق ، فإن من شك في أوضح الأمرين وأبينهما في العقل وفي أمر لم يشك أحد من الأولين والآخرين فيه، كان أولى بالجهل ممن قال بما قالت به الأنبياء والرسل وأتباعهم، وسائر عقلاء بني آدم من الأولين والآخرين، وعلم ثبوته بالبراهين اليقينية .
وذلك أنه لم يجوز أحد من بني آدم وجود فاعل للعالم ، ولذلك الفاعل فاعل إلى ما لا نهاية له، من غير أن يكون هناك فاعل موجود
[ ص: 236 ] بنفسه ، فمن شك في جواز هذا أو عجز عن جواب شبهة مجوزة، كان جهله بينا ، وكان أجهل من أفحش الناس قولا بالباطل المحض من التشبيه والتجسيم، حتى لو فرض القول الذي يحكى عن غالية المنتقصة لله من اليهود وغيرهم، مثل الذين يصفونه بالبكاء والحزن ، وعض اليد حتى جرى الدم، ورمد العين، وباللغوب والفقر والبخل ، وغير ذلك من النقائص التي يجب تنزيه الله تعالى عنها، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
فإذا قدر واجب بنفسه موصوف بهذه النقائص، لم يكن هذا أبعد في العقل من وجود فاعل ليس موجودا بنفسه ، له فاعل ليس موجودا بنفسه، إلى ما لا يتناهى. فإن هذا وصف لجميع الفاعلين بالعدم الذي هو غاية النقص، فإن غاية النقص أنه يرجع إلى أمور عدمية ، فكيف عدم ما يقدر فاعلا للعالم ؟
فتبين أن هؤلاء الذين يدعون العقليات التي تعارض السمعيات، هم من أبعد الناس عن موجب العقل ومقتضاه ، كما هم من أبعد الناس عن متابعة الكتاب المنزل والنبي المرسل ، وأن نفس ما به يقدحون في أدلة الحق، التي توافق ما جاء به الرسول، لو قدحوا به فيما يعارض ما جاء به الرسول، لسلموا عن التناقض، وصح نظرهم وعقلهم واستدلالهم ، ومعارضتهم صحيح المنقول وصريح المعقول بالشبهات الفاسدة .
[ ص: 237 ]