صفحة جزء
ومن أعجب الأشياء أن هذا الآمدي لما تكلم على مسألة: هل وجوده زائد على ذاته أم لا؟ ذكر:"حجة من قال: لا يزيد وجوده على ذاته"فقال : "احتجوا بأنه لو كان زائدا على ذاته لم يخل: إما أن يكون واجبا أو ممكنا، لا جائز أن يكون واجبا لأنه مفتقر إلى الذات، ضرورة كونه صفة لها ، ولا شيء من المفتقر إلى غيره يكون واجبا ، فإذا وجوده لو كان زائدا على ذاته لما كان واجبا، ، فلم يبق إلا أن يكون ممكنا ، وإذا كان ممكنا فلا بد له من مؤثر ، والمؤثر فيه إما الذات أو خارج عنها ، والأول ممتنع ، لأنه يستلزم كون الذات قابلة وفاعلة ، ولأن المؤثر في الوجود لا بد أن يكون موجودا ، فتأثيرها في وجودها يفتقر إلى وجودها ، فالوجود مفتقر إلى [ ص: 238 ] نفسه ، وهو محال. وإن كان المؤثر غيرها ، كان الوجود الواجب مستفادا له من غيره، فلا يكون الوجود واجبا بنفسه" .

ثم قال:"وهذه الحجة ضعيفة، إذ لقائل أن يقول:ما المانع من كون الوجود الزائد على الماهية واجبا لنفسه.قولكم: لأنه مفتقر إلى الماهية ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا لنفسه، قلنا: لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره ، بل الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقرا إلى مؤثر فاعل ، ولا يمتنع أن يكون موجبا بنفسه ، وإن كان مفتقرا إلى القابل ، فإن الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل، وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه ، أو لما هو خارج عنه ، وهذا كما يقوله الفيلسوف في [ ص: 239 ] العقل الفعال بأنه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية، وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة" .

قال :"وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون ممكنا ، ولكن لا نسلم أن حقيقة الممكن هو المفتقر إلى المؤثر ، بل الممكن هو المفتقر إلى الغير ، والافتقار إلى الغير أعممن الافتقار إلى المؤثر ، وقد تحقق ذلك بالافتقار إلى الذات القابلة" .

فيقال:"ففي هذا الكلام جوز أن يكون الوجود الواجب مفتقرا إلى الماهية ، وذكر أن الواجب بنفسه هو الذي لا يفتقر إلى المؤثر، ليس هو الذي لا يفتقر إلى الغير ، وأن كونه ممكنا -بمعنى افتقاره إلى الغير لا إلى المؤثر- هو الإمكان الذي يوصف به الوجود الواجب المفتقر إلى الماهية .

وهذا الذي قاله هو بعينه يقال له فيما ذكره هنا حيث قال:"إن المجموع مفتقر إلى كل من أجزائه ، والمفتقر إلى الغير لا يكون واجبا بنفسه لأنه ممكن" . [ ص: 240 ]

فيقال له : لا نسلم أن المفتقر إلى الغير على الإطلاق لا يكون واجبا بنفسه ، بل المفتقر إلى المؤثر لا يكون واجبا بنفسه، وافتقار المجموع إلى كل من أجزائه ليس افتقارا إلى مؤثر بل إلى الغير، كافتقار الوجود إلى الماهية إذا فرض تعددها .

ويقال : قولك "إن المجموع يكون ممكنا"أتعني بالممكن ما يفتقر إلى مؤثر؟ أم ما يفتقر إلى الغير ؟

فإن قلت الأول كان باطلا ، وإن قلت الثاني ، فلم قلت إن الواجب بنفسه الذي لا يفتقر إلى فاعل لا يكون ممكنا، بمعنى أنه يفتقر إلى غير لا إلى فاعل ؟

فهذا الكلام الذي ذكره هو بعينه يجيب به نفسه عما ذكره هنا بطريق الأولى والأحرى ، فإن توقف المجموع الواجب بأجزائه على كل من أجزائه لا ينفي وجوبه بنفسه ، التي هي المجموع مع الأجزاء. أما توقف الوجود على الماهية المغايرة له ، فإنه يقتضي توقف الوجود الواجب على ما ليس داخلا فيه . [ ص: 241 ]

ومعلوم أن افتقار الشيء إلى جزئه ليس هو كافتقاره إلى ما ليس جزأه ، بل الأول لا ينفي كمال وجوبه ، إذ كان افتقاره إلى جزئه ليس أعظم من افتقاره إلى نفسه ، والواجب بنفسه لا يستغني عن نفسه ، فلا يستغني عما هو داخل في مسمى نفسه . أما إذا قدر وجود واجب وماهية مغايرة له ، كان الواجب مفتقرا إلى ما ليس داخلا في مسمى اسمه، فمن جوز ذاك كيف يمنع هذا ؟

ولهذا كان قول مثبتة الصفات خيرا من قول أبي هاشم وأمثاله من المعتزلة وأتباعهم، الذين قالوا : إن وجود كل موجود في الخارج مغاير لذاته الموجودة في الخارج ، وأن وجود واجب الوجود زائد على ماهيته، وإن كان قد وافقه على ذلك طائفة من أهل الإثبات في إثناء كلامهم، حتى من أصحاب الأئمة الأربعة [أحمد] وغيره، كابن الزاغوني، وهو أحد قولي الرازي ، بل هو الذي رجحه في أكثر كتبه، وكذلك أبو حامد .

فإبطال مثل هذا التركيب أولى من إبطال ذاك ، وأدنى الأحوال أن يكون مثله ، فإن من قال : إن الوجود زائد على الماهية، [ ص: 242 ] لزمه أن يجعل الماهية قابلة للوجود ، والوجود صفة لها ، فيجعل الوجود الواجب صفة لغيره ، والصفة مفتقرة إلى محلها ، وهذا الافتقار أقرب إلى أن تكون الصفة ممكنة ، من افتقار الجميع إلى جزئه ، فإن افتقار الجميع إلى نفسه لا ينافي وجوبه بنفسه ، فكيف افتقاره إلى صفته اللازمة له، وإلى ما يقدر أنه جزؤه الذي لا يوجد إلا في ضمن نفسه ؟ وأما افتقار الصفة إلى الموصوف فأدل على إمكان الصفة بنفسها ، فإذا كان الوجود الواجب لا يمتنع أن يكون صفة لماهية، فكيف يمتنع أن يكون مجموعا ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية