الوجه الرابع : أن يقال : لم لا يجوز أن يكون بعض تلك الأجزاء واجبا وبعضها ممكنا ؟
قوله: "الموقوف على الممكن أولى بالإمكان" .
قيل : متى إذا كان الجزء الممكن من مقتضيات الجزء الواجب أو بالعكس . وهذا كما أن مجموع الوجود : بعضه واجب لنفسه ، وبعضه ممكن . والممكن منه من مفعولات الواجب لنفسه ، ولا يلزم من ذلك أن يكون مجموع الموجودات أولى بالإمكان من الموجودات الممكنة .
وهذا الجواب يقوله من يقوله في مواضع: أحدها في الذات مع الصفات .
فإذا قيل له : الذات والصفات مجموع مركب من أجزاء ، فإما أن تكون واجبة كلها ، أو بعضها واجب وبعضها ممكن -أمكنه أن يقول : الذات واجبة ، والصفات ممكنة بنفسها، وهي واجبة بالذات ، كما يجيب بمثل ذلك طائفة من الناس .
[ ص: 263 ]
فإذا قيل : المجموع متوقف على الممكن .
قال : إن ذلك الممكن من مقتضيات الواجب بنفسه .
وهذا يقوله هؤلاء إذا فسر إمكان الصفات بأنها تفتقر إلى محل . فالذات لا تفتقر إلى محل ، فالذات لا تفتقر إلى فاعل ولا محل ، والصفات لا بد لها من محل . وإن فسر الواجب بما لا يفتقر إلى موجب فالصفات أيضا لا تفتقر إلى موجب . لكنه قد يسلم لهم هؤلاء أن الصفات لها موجب ، وهو الذات .
وقولهم : "إن الشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا" من أفسد الكلام ، كما قد بسط في موضعه. فيقول هؤلاء: الذات موجبة للصفات ومحل لها ، والذات واجبة بنفسها ، والصفات واجبة بها ، والمجموع واجب ، وإن توقف على الممكن بنفسه الواجب بغيره ، لأن الواجب بنفسه مستلزم للصفات ، ولاجتماع المجموع .
وأيضا فيقوله من يقول : إنه يقوم بذاته أمور متعلقة بمشيئته وقدرته ، فإن تلك [أيضا] ممكنة بنفسها ، وقد تدخل في مسمى أسمائه .
ففي الجملة ليس معهم حجة تمنع كون الجموع فيه ما هو واجب موجب لغيره .
وإذا قيل : المحتاج إلى الغير أولى بالاحتياج .
[ ص: 264 ]
قيل : هب أن الأمر كذلك ، لكن إذا كان الغير من لوازم الجزء الواجب بنفسه ، كان المجموع من لوازم الجزء بنفسه ، وحاصله أن في الأمور المجتمعة ما هو مستلزم لسائرها .
وإذا قيل : فحينئذ لا يكون الواجب بنفسه إلا ذلك الملزوم .
قيل : هذا نزاع لفظي ، فإن الممكنات لا بد لها من فاعل غني عن الفاعل ، والدليل دل على هذا ، وليس فيما ذكرتموه ما ينفي أن تكون ذاته مستلزمة لأمور لازمة له ، واسمه يتناول الملزوم واللازم جميعا ، وإن سمي الملزوم واجبا بنفسه ، واللازم واجبا بغيره ، كما قاله من قاله في الذات والصفات .
فيقول المنازع له: فهذه مجموع الأدلة التي ذكرها هو وغيره على نفي كون الواجب بنفسه جسما أو جوهرا ، قد تبين أنه لا دلالة في شيء منها ، بل هي على نقيض مطلوبهم أدل منها على المطلوب .
وهذا ذكرناه لما أحال عليه قوله : "إن الحروف إذا قام كل منها بمحل غير [محل] الآخر يلزم التركيب" وقد أبطلناه في إبطال التجسيم .
ثم قال: "الوجه الثاني : أنه قال: ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس" .
[ ص: 265 ]
ولقائل أن يقول: هذا الوجه في غاية الضعف ، وذلك أنه إذا كانت الحروف مقدورة له ، حادثة بمشيئته ، كما ذكرته عن منازعيك، فتخصيص كل منها بمحله ، كتخصيص جميع الحوادث بما اختصت به من الصفات والمقادير والأمكنة والأزمنة .
وهذا إما أن يرد إلى محض المشيئة، وإما إلى حكمة جلية أو خفية. وقد تنازع الناس في الحروف التي في كلام الآدميين: هل بينها وبين المعاني مناسبة تقتضي الاختصاص ؟ على قولين مشهورين . وأما اختصاصها بمحالها في حق الآدميين بسبب يقتضي الاختصاص ، فهذا لا نزاع فيه . فعلم أن الاختصاص منه بالمحل أولى منه بالمعنى .
وأما قوله : "إن قالوا باجتماع الحروف بذاته مع اتحاد الذات ، فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد" فهذا قد تقدم أن للناس فيه قولين ، وأن القائلين باجتماع ذلك: إن كان قولهم فاسدا، فقول من يقول باجتماع المعاني المتعاقبة ، وأنها شيء واحد، وأن الصفات المتنوعة شيء واحد أعظم فسادا .
وأما قوله : "وإن لم يقولوا باجتماع حروف القول في ذاته، فيلزم منه مناقضة أصلهم في أن ما اتصف به الرب يستحيل عروه عنه" فكلام صحيح . ولكن تناقضهم لا يستلزم صحة قول منازعيهم إذا كان ثم قول ثالث، وهذا اللازم فيه نزاع معروف ، وقد حكي النزاع عنهم أنفسهم .
[ ص: 266 ]
فمن قال: إن
ما اتصف به من الأصوات والأفعال ونحو ذلك يجوز عروه ، لم يكن مناقضا .
والذين قالوا منهم: إنه لا يجوز عروه عما اتصف به ، عمدتهم أنه لو جاز عروه عنه لم يمكن ذلك إلا بحدوث ضد ، ثم ذلك الضد الحادث لا يزول إلا بضد حادث، فيلزم تسلسل الحوادث بذاته . وهذا يجيب عنه بعضهم بأنه يجوز عدمه بدون حدوث ضد ، ويجيب عنه بعضهم بالتزام التسلسل في مثل ذلك في المستقبل .