وأما الجواب لأهل المقام الثاني - وهم محققو النفاة الذين يقولون: السمع لم يدل إلا على الإثبات، ولكن العقل دل على النفي - فجوابهم من وجوه:
أحدها: أن يقال: نحن في هذا المقام مقصودنا أن العقل الذي به يعلم صحة السمع لا يستلزم النفي المناقض للسمع، وقد تبين أن الأنبياء لم يدعوا الناس بهذه الطريق المستلزمة للنفي طريقة الأعراض، وأن الذين آمنوا بهم وعلموا صدقهم لم يعلموه بهذه الطريق، وحينئذ فإذا قدر أن معقولكم خالف السمع لم يكن هذا المعقول أصلا في السمع، ولم يكن السمع قد ناقض المعقول الذي عرفت به صحته، وهذا هو المطلوب.
وإذا قلتم: نحن لم نعرف صحة السمع إلا بهذه الطريق، أو قلتم: لا نعرف السمع إلا بهذه الطريق.
قيل لكم: أما شهادتكم على أنفسكم بأنكم لم تعرفوا السمع إلا بهذه الطريق، فقد شهدتم على أنفسكم بضلالكم وجهلكم بالطرق التي دعت بها الأنبياء أتباعهم،
[ ص: 131 ] وإذا كنتم لا تعرفون تلك الطرق فأنتم جهال بطرق الأنبياء، وبما بينوا به إثبات الصانع وتصديق رسله، فلا يجوز لكم حينئذ أن تقولوا: إن صدقهم لا يعرف إلا بمعقول يناقض المنقول عنهم.
وأما إذا قلتم: لا يمكن أن يعرف الله إلا بهذه الطريق، فهذه شهادة زور وتكذيب بما لم تحيطوا بعلمه، ونفي لا يمكنكم معرفته،
فمن أين تعرفون أن جميع بني آدم من الأنبياء وأتباع الأنبياء لا يمكنهم أن يعرفوا الله إلا بإثبات الأعراض وحدوثها ولزومها للجسم، وامتناع حوادث لا أول لها، أو بنحو هذا الطريق؟ وهل الإقدام على هذا النفي إلا من قول من هو أجهل الناس وأضلهم وأبعدهم عن معرفة طرق العلم وأدلته، والأسباب التي بها يعرف الناس ما لم يعرفوه، وهذا النفي قاله كثير من
الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم، وهذه حاله، وهذا النفي عمدة هؤلاء.