وقد قال في ضمن كلامه: "إن الشريعة الجائية على لسان نبينا
[ ص: 15 ] محمد صلى الله عليه وسلم جاءت أفضل ما يمكن أن تجيء عليه الشرائع وأكمله، ولهذا صلح أن تكون خاتمة الشرائع وآخر الملل.
قال: "وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد: مثل أنه: عالم بالذات، أو عالم بعلم، قادر بالذات، أو قادر بقدرة، واحد الذات على كثرة الأوصاف، أو قابل لكثرة، تعالى عنها بوجه من الوجوه، متحيز الذات، أو منزهها عن الجهات؟ فإنه لا يخلو: إما أن تكون هذه المعاني واجبا تحققها وإتقان المذهب الحق فيها، أو يسع الصدوف عنها وإغفال البحث والروية فيها. فإن كان البحث عنها معفوا عنه، وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به، فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف، وعنه غنية. وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة، وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر
[ ص: 16 ] فيه بالإشارة والإيماء. بل التصريح المستقصى فيه، والمنبه عليه: والموفي حق البيان والإيضاح. والتفهيم والتعريف على معانيه، فإن المبرزين المنفقين أيامهم ولياليهم وساعات عمرهم على تمرين أذهانهم، وتذكية أفهامهم، وترشيح نفوسهم، لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة، يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل إيضاح، وشرح عبارة، فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب؟ ولعمري لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أوهامهم، ثم سامه أن يتنجز منهم الإيمان والإجابة غير ممهل فيه، ثم سامه أن يتولى رياضة نفوس الناس قاطبة، حتى تستعد للوقوف عليها، لكلفه شططا، وأن يفعل ما ليس في قوة البشر، اللهم إلا أن تدركهم خاصة إلهية، وقوة علوية، وإلهام سماوي، فتكون
[ ص: 17 ] حينئذ وساطة الرسول مستغنى عنها، وتبليغه غير محتاج إليه. ثم هبك
الكتاب العزيز جائيا على لغة العرب وعادة لسانهم في الاستعارة والمجاز، فما قولهم في الكتاب العبراني، وكله من أوله إلى آخره تشبيه صرف؟ وليس لقائل أن يقول: إن ذلك الكتاب محرف كله، وأنى يحرف كلية كتاب منتشر في أمم لا يطاق تعديدهم، وبلادهم متنائية، وأوهامهم متباينة، منهم يهود ونصارى، وهم أمتان متعاديتان؟ فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون، مقربا ما لا يفهمون إلى أوهامهم بالتمثيل والتشبيه، ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة".
قال: "فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب؟" - يعني أمر المعاد "ولو فرضنا الأمور الأخروية روحانية غير مجسمة،
[ ص: 18 ] بعيدة عن إدراك بدائه الأذهان لحقيقتها. لم يكن سبيل الشرائع في الدعوة إليها والتحذير عنها منبها بالدلالة عليها. بل بالتعبير عنها بوجوه من التمثيلات المقربة إلى الإفهام. فكيف يكون وجود شيء حجة على وجود شيء آخر. لو لم يكن الشيء الآخر على الحالة المفروضة لكان الشيء الأول على حالته؟ فهذا كله هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصا من الناس لا عاما: أن ظاهر الشرائع غير محتج به في مثل هذه الأبواب".