وإن كان معنى قوله: "هل هو عالم بالذات أو بعلم؟ "أن هنا ذاتا مجردة موجودة بدون العلم، وأن العلم زائد عليها، فهذا تصور فاسد فإن الذات المجردة عن العلم اللازم لها إنما تقدر في الأذهان، لا حقيقة لها في الأعيان.
ولفظ "الذات" يراد به: الذات الموصوفة بالعلم، وحينئذ فقولنا: هل هو عالم بالذات أو بالعلم؟" كلام واحد، لأن لفظ "الذات" متضمن للعلم على هذا التفسير، فلا يكون قولنا: "أو بالعلم قسما آخر.
ويراد بالذات المجردة عن العلم، فهذه لا حقيقة لها إذا كانت الذات لا تكون إلا عالمة، كما أن ما لا يكون إلا حيا لا يمكن وجوده
[ ص: 35 ] منفكا عن كونه حيا وما لا يكون إلا متحيزا لا يمكن وجوده منفكا عن التحيز، فما لا يمكن وجوده إلا عالما وقادرا، ويمتنع وجوده غير عالم قادر، كيف يكون تقديره غير عالم ولا قادر ممكنا في الخارج؟
ونفس العلم والقدرة هو نفس كونه عالما قادرا على قول الجمهور، الذين ينفون أن تكون الأحوال [زائدة في الخارج على الصفات، ومن أثبت الأحوال زائدة على الصفات
nindex.php?page=showalam&ids=12815كالقاضي أبي بكر، وأبي يعلى، وأبي المعالي في أول قوليه، فهؤلاء يقولون: ثبوت الصفات يستلزم ثبوت الأحوال، وإثبات الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، مع أن الصواب أن الأحوال كالكليات، لها وجود في الأذهان لا في الأعيان.
ومما يبين ذلك أن النزاع في كون الرب تعالى عالما لذاته أو بالعلم، أو قادرا لذاته أو بالقدرة، كثير منه نزاع لفظي. بل عامة المتنازعين فيه إذا حرر عليهم الكلام لم يتلخص بينهم نزاع، وإنما يحصل النزاع بين مثبتة الأحوال ونفاتها،
فإن أهل الإثبات متفقون على أن علمه وقدرته من لوازم ذاته، وأنه لا يمكن وجوده غير عالم ولا قادر، وينكرون وجود
[ ص: 36 ] ذات مجردة عن العلم والقدرة. وإذا قالوا: هي زائدة على الذات، فلا يعنون أنها زائدة على الذات العالمة القادرة، بل هي زائدة على ذات مجردة عن العلم والقدرة، إلا من يقول منهم: إن له صفة هي العلم أوجبت كونه عالما، فهؤلاء مثبتو الحال. وأكثر الصفاتية هم من نفاة الأحوال.