أما الشرع فإن
الرسل أخبرت عما لم نشهده ولم نحسه في الدنيا وسمت ذلك غيبا لمغيبه عن الشهادة، كقوله تعالى:
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة [سورة البقرة: 3]، ومنه قوله تعالى:
عالم الغيب والشهادة [سورة الرعد: 9]، فالغيب ما غاب عن شهود العباد، والشهادة ما شهدوها.
وهذا الفرق لا يوجب أن الغيب ليس مما يمكن إحساسه، بل من المعلوم بالاضطرار أن ما أخبرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من الثواب والعقاب كله مما يمكن إحساسه، بل وكذلك ما أخبرت به عن الملائكة، والعرش، والكرسي، والجنة، والنار، وغير ذلك، لكنا لم نشهده الآن.
ولهذا أعظم ما أخبرت به من الغيب هو الله سبحانه وتعالى، مع إخبار الرسول لنا أنا نراه كما نرى الشمس والقمر، فأي الإحساس أعظم من إحساسنا بالشمس والقمر؟
وما أخبرت به من الغيب كالجنة والنار والملائكة والعرش والكرسي وغير ذلك مما يمكن إحساسه، فليس الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس والمعقول.
فهذا أصل ينبغي معرفته، فإنه بسبب هذا وقع من الخلل في كلام طوائف ما لا يحصيه إلا الله تعالى، كصاحب الكتب "المضنون بها" وصاحب "الملل والنحل" وطوائف غيرهم.
[ ص: 173 ]
ولهذا وقع في كلام صاحب الكتب "المضنون بها على غير أهلها" وصاحب "نهاية الإقدام" ونحوهما، من كلام هؤلاء الذين يجعلون الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس وبين المعقول - أنواع من جنس كلام الملاحدة الباطنية: إما ملاحدة
الشيعة،، كما يوجد في كلام صاحب "الملل والنحل" و"نهاية الإقدام" - وقد قيل: إنه صنف تفسيره "سورة
يوسف" على مذهب
الإسماعيلية: ملاحدة
الشيعة، وإما ملاحدة
الباطنية المنسوبين إلى
الصوفية.
ومن هنا دخل أهل وحدة الوجود وأمثالهم من ملاحدة النساك المنتسبين إلى التصوف، وكل من هؤلاء وهؤلاء يؤول به الأمر إلى مخالفة صريح العقل والنقل.
لكن هذا يحيل على علم الإمام المعصوم، وهذا يحيل على معرفة الشيخ المحفوظ، حتى يدعي كل منهما فيمن يحيل عليه ما هو أعظم من مقام الأنبياء، مع أن الذي يحيل عليه لا بد أن يكون فيه من الكذب والجهل والظلم ما لا يعلمه إلا الله، وأحسن أحواله أن يكون كثير من كذبه جهلا منه وضلالا، لم يعتمد فيه خلاف ما يعلمه من الحق، كضلال كثير من النصارى أهل الأهواء.
والمقصود أنه بهذا يتبين أن خطأهم في العقل، وما يسمونه معقولات، ودعواهم وجود أمور معقولات خارجة عن العاقل، لا
[ ص: 174 ] يمكن الإشارة إليها ولا الإحساس بها بوجه من الوجوه، وليست داخل شيء من العالم ولا خارجه، ولا مباينة له، ولا حالة فيه - فإنه من المعلوم أن المعقولات ما عقلها الإنسان، فهي معقولة العقل، وأظهر ذلك الكليات المجردة: كالإنسانية المطلقة، والحيوانية المطلقة، والجسم المطلق، والوجود المطلق، ونحو ذلك، فإن هذه من وجوده في العقل، وليس في الخارج شيء مطلق غير معين، بل لا يوجد إلا وهو معين مشخص، وهو المحسوس، وإنما يثبت العقليات المجردة في الخارج الغالطون من المتفلسفة، كالفيثاغورية الذين يثبتون العدد المجرد، والأفلاطونية الذين يثبتون المثل الأفلاطونية، وهي الماهيات المجردة، والهيولى المجردة، والمدة المجردة، والخلاء المجرد.