ودعوى من ادعى: أن الأجسام مركبة من جواهر لا تنقسم، قائمة بأنفسها، ليس لها شيء من هذه الأعراض، ولكن لما تركبت صارت متصفة بهذه الصفات، كاتصاف النار بالحرارة، والماء بالرطوبة دعوى باطلة بالعقل والحس، فإن الجسم المعين كهذه النار، لم تكن أجزاؤه قط عارية عن كونها نارا، بل النار لازمة لها.
وإذا قيل: قد كان هواء فصار نارا.
قيل: نعم، وتلك الأجزاء الهوائية لم تكن قط إلا هواء. واستحالة الجسم إلى جسم آخر مشهود معروف عند العامة والخاصة، كما يقول الفقهاء: إذا استحال الخمر خلا، أو العذرة رمادا، والخنزير ملحا، ونحو ذلك وكما يكون الإنسان منيا، ثم يصير علقة، ثم مضغة.
فإما أن يقال: إن أجزاء العذرة تفرقت، وهي بعينها باقية حين صارت رمادا، وإنما تغيرت صفاتها، كما يتغير اللون والشكل، بمنزلة
[ ص: 196 ] الثوب المصبوغ، وبمنزلة الخاتم إذا عمل درهما، فهذا مكابرة للحس، لأن الفضة التي كانت خاتما، هي بعينها التي جعلت درهما أو سوارا، وإنما تغير شكلها كالشمعة إذا غير شكلها.
وكذلك إذا صبغ الجسم أو تحرك، فهنا اختلفت صفاته التي هي أعراضه. وأما المني إذا صار آدميا، والهواء إذا صار نارا، والنار إذا طفئت صارت هواء، فهنا نفس حقيقة الشيء استحالت. فخلق من الأولى ما هو مخالف لها، وفنيت الأولى، ولم يبق من نفس حقيقتها شيء، ولكن بقي ما خلق منها، كما يبقى الإنسان الذي خلق من أبيه بعد موت أبيه، ولا يقول عاقل: إنه عبارة عن أجزاء كانت في أبيه فتفرقت فيه.
وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع، وبينا فساد قول من يقول: الأجسام مركبة من الجواهر التي لا تنقسم، أو مركبة من جوهرين قائمين بأنفسهما: مادة وصورة.
ومن عرف هذا زاحت عنه شبهات كثيرة في الإيمان بالله تعالى. وباليوم الآخر. في الخلق، وفي البعث، وفي إحياء الأموات، وإعادة الأبدان، وغير ذلك مما هو مذكور في غير هذا الموضع.
فهذا الموضع يحتاج إلى تحقيقه كل من نظر في هذه الأمور، فإنه بمعرفته تزول كثير من الشبهات المتعلقة بالله واليوم الآخر، ويعرف من
[ ص: 197 ] الكلام الذي ذمه السلف، والمعقول الذي يقال إنه معارض للرسول، وما يتبين به أن هؤلاء خالفوا الحس والعقل.
وذلك أنا نشهد هذه الأعيان المرئية تتحول من حال إلى حال، كما نشهد أن الشمس والقمر والكواكب تتحرك وتبزغ تارة وتأفل أخرى، ونشهد أيضا أن السحاب والرياح تتحرك، لكن السحاب نشهد اجتماعه وتفرقه وخروج الودق من خلاله، ونشهد الماء يتحرك ويجتمع ويفترق، ونشهد النبات والحيوان ينمي ويعتدي، ومثل هذا منتف في الماء والهواء والأفلاك، وحركته بالنمو والاغتذاء ليست من جنس حركة الماء والهواء والنجوم، فإن هذه توجب من تغير النامي المغتذي واستحالته ما لا توجبه تلك، فإن الكواكب هي في نفسها لم تستحل وتتغير بالحركة، بخلاف الطفل إذا كبر بعد صغره، والزرع إذا استغلظ واستوى على سوقه.
ونشهد مع ذلك أن الحطب يصير رمادا ودخانا، وكذلك الدهن يصير دخانا، والماء يصير بخارا، وليس هذا مثل كبر الصغير، بل هذا فيه من الاستحالة والانقلاب من حقيقة إلى حقيقة، ما ليس في نبات الزرع والحيوان.
ونشهد إخراج الله من الأرض والشجر: الزرع والثمر، وإخراج الحيوان من الحيوان.
[ ص: 198 ]
كما قال تعالى:
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء [سورة فاطر: 27-28]، وقال تعالى:
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي [سورة الروم: 19].
وقال تعالى:
وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا الآية [سورة الأنعام: 99].
وقال:
وجعلنا من الماء كل شيء حي [سورة الأنبياء: 30]، وقال:
الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر [سورة إبراهيم: 32- 33].
فنحن نشهد الثمر يخرج من الخشب، ليست حقيقة الخشب حقيقة الرطب والعنب والرمان، ثم إذا أخرج الثمرة تكون خضراء، ثم تصير صفراء، ثم تصير حمراء، فتختلف ألوانها وتكبر بعد صغرها.
ونرى الألوان المختلفة التي يخلقها الله للحيوان والنبات وغير ذلك من أسود وأحمر وأصفر وأبيض، ونفرق بين اختلاف ألوانها وحركاتها وطعومها بالحلاوة والحموضة وغير ذلك، وبين اختلافها بالنمو والاغتذاء، وكبرها بعد الصغر، وبين خروج السنبلة من الحبة،
[ ص: 199 ] والشجرة من النواة، وخروج الثمرة من الشجرة، فاختلافها بالحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، كتفريق الماء وجمعه، وتفريق التراب وجمعه، ليس يوجب اختلاف شيء من حقيقة الجسم، وبعد ذلك اختلاف ألوانه وطعومه، فإن كونه أحمر وأخضر وأصفر وحلوا وحامضا، هو اختلاف يزيد على مجرد الحركة كحركة الكواكب والرياح.