ثم إنه في آخر الأمر لا حصل له علم من الشرعيات ولا من العقليات، بل هو، كما قال الله تعالى:
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد [سورة الحج: 3] .
وكما قال تعالى:
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير [سورة الحج: 8] .
وكما قال تعالى:
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [سورة الأنعام: 110] .
وكما قال:
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا [سورة الفرقان: 44] .
وكما قال تعالى:
ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني [ ص: 318 ] اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا [سورة الفرقان: 27-29] .
وكما قال:
يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا [سورة الأحزاب: 66-68] .
وهذه النصوص فيها نصيب لكل من اتبع أحدا من الرؤوس فيما يخالف الكتاب والسنة، سواء كانوا من رؤوس أهل النظر والكلام والمعقول والفلسفة، أو رؤوس أهل الفقه والكلام في الأحكام الشرعية، أو من رؤوس أهل العبادة والزهادة والتأله والتصوف، أو من رؤوس أهل الملك والإمارة والحكم والولاية والقضاء.
ولست تجد أحدا من هؤلاء إلا متناقضا، وهو نفسه يخالف قول ذلك المتبوع الذي عظمه في موضع آخر، إذ لا يصلح أمر دنياه ودينه بموافقة ذلك المتبوع، لتناقض أوامره.
بخلاف ما جاء من عند الله، فإنه متفق مؤتلف، فيه صلاح أحوال العباد، في المعاش والمعاد.
قال تعالى:
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [سورة النساء: 82] ، وهذه الجمل مبسوطة في مواضع غير هذا.
[ ص: 319 ]
والمقصود هنا أن ننبه المسلم على أن
العقل الصريح كلما أمعن في تحقيقه لا يكون إلا موافقا للشرع الذي جاءت به الرسل، حتى تتبين لك صحة ما جاء به بالأدلة العقلية، التي لا يحتاج فيها إلى خبر مخبر ولو كان معصوما، لكن تتعاضد الأدلة السمعية والعقلية، الخبرية والنظرية.
كما قال تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد [سورة فصلت: 53] .
ولكن الناس متفاوتون في هذا بحسب ما يؤتيهم الله من العقل والمعرفة، والنظر والاستدلال والتمييز، فكل من كان أكمل في معرفة الصواب من هذا، كان أكمل في معرفة الموافقة والمطابقة.
وهذا أمر يخبر به من خبره، فقد يكون الرجل قبل أن يستيقن ما جاءت به السنة عنده شبهة ووهم، لظنه أنه قد عارضها ما يعارضها به المعارض: إما من عقلياته، وإما من ذوقياته، وإما من سياساته، فإذا هداه الله وأرشده تبين له في آخر الأمر أن ما وافق الشرع هو المعقول الصريح، وهو الذوق الصحيح، وهو السياسة الكاملة العادلة، وأن ما خالف ذلك هو من أمور أهل الجهل والظلم.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل:
ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [سورة يونس: 25] .