كذلك من نفى الجسم من أهل الإثبات وأراد بنفيه ما يتضمنه من الباطل دون الحق كان من هذا الباب، ولم يكن هذا مما يذم في العقل والدين، بل هو من جنس كيد الله للمؤمن المحق إذ جعل الله له توسعة في الكلام بحيث يكذب فيما يعنيه ولا يفهم الظالم ما يستعين به على الظلم والعدوان، بل يكتمه ذلك، وإن كان في هذا تلبيس على الظالم حيث يفهم من كلامه ما لا يعنيه؛ فهذا التلبيس جزاء له على ما لبسه من الحق بالباطل بما دخل فيه من الكذب والظلم، كما كاد الله
ليوسف الصديق عليه السلام مثل تأذين المؤذن:
أيتها العير إنكم لسارقون [يوسف: 70] فهم وإن اعتقدوا أنه أريد سرقة
[ ص: 403 ] الصواع فقد كانوا يستحقون الخطاب بالسرقة، لأنهم سرقوا
يوسف من أبيه، ولبسوا على أبيهم حيث قالوا: أكله الذئب. فجاز أن يلبس عليهم كما لبسوا على أبيهم،
فإن الدين كله مداره على العدل والقسط، قال تعالى:
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [الحديد: 25] وإن قدر أن ذلك الظالم متأول وأنه معتقد صواب نفسه / فهو من البغاة المتأولين، والبغاة المتأولون يجب أن يعاملوا بالقسط والعدل فيدفع بغيهم، وإن [كان] في ذلك ضرر بهم، لأنهم أيضا يضرون غيرهم، فيتقابل الضرران، ويتميز أهل العدل بأنهم أهل الحق والعدل، فلهذا كان هذا مما أمر الله به ورسوله، وهو من العدل والقسط، ومن هذا ما وصف الله تعالى به نفسه في مثل قوله تعالى:
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون [البقرة: 14-15] وفي مثل قوله:
إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم [النساء: 142] وفي مثل قوله:
الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم [التوبة: 79].
فلما كان المنافقون فيهم من الكذب والظلم ما هو استهزاء
[ ص: 404 ] وخديعة ومكر وسخرية بغير الحق جازاهم الله على ذلك بما فعله بهم من الاستهزاء والخديعة والسخرية بالحق والعدل، ومثله قوله:
إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا [الطارق: 15، 16] وقوله:
أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون [الطور: 42] وقوله:
فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون [القلم: 44] وقوله:
أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [المؤمنون: 55، 56] وقوله:
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [الأنعام: 44] إلى أمثال ذلك في القرآن.
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، فإذا كان كذلك، وقد علم أن هؤلاء الملاحدة
الجهمية وسائر أتباعهم فيهم من النفاق أعظم مما يوجد في أكثر أهل الأهواء وفيهم من صفات المنافقين - بقدر ذلك- من السخرية والاستهزاء والخديعة ونحو ذلك فالله تعالى يجازيهم على أعمالهم جزاء وفاقا:
وما ربك بظلام للعبيد [فصلت: 46] فيما يأمر به ويشرعه وفيما يقدره ويتوعد به، وهذا يتقرر: