بالوجه العاشر: وهو
أن هؤلاء الجهمية فيهم من استعمال [ ص: 405 ] الألفاظ المجملة وإفهام الناس خلاف ما في نفوسهم ما لا يوجد في غيرهم من أهل الأرض، والرافضة يشركونهم في ذلك، لكن هؤلاء أعظم كفرا ونفاقا، فلهذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=16349عبد الرحمن بن مهدي: "هما ملتان:
الجهمية والرافضة" ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري: "ما أبالي أصليت خلف الجهمي والرافضي أم صليت خلف اليهودي والنصراني، ولا يسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم".
وهذا مشروح في غير هذا الموضع، فإن
الجهمية قدحوا في حقيقة التوحيد، وهو شهادة أن لا إله إلا الله.
والرافضة حقيقة قولهم قدح في الأصل الثاني وهو شهادة أن
محمدا رسول الله، فإذا جمع الإنسان بين الرفض والتجهم يقرب حينئذ إلى
الملاحدة القرامطة الباطنية الذين هم أعظم أهل الأرض نفاقا، وكتمانا لما في أنفسهم، وإظهارا لخلاف ما يعتقدونه، ومخاطبة للناس بالألفاظ المجملة التي يفهمون الناس منها
[ ص: 406 ] ما لا يقصدونه هم، ولفرط ضلالهم يجعلون الأنبياء كذلك زعما منهم أن هذا هو الكمال الذي لا كمال بعده وهؤلاء الملاحدة هم الذين ينفون عن الله النقيضين جميعا وينفون أسماء [ه] الحسنى وهم مشتركون مع الفلاسفة المشائين في عامة الأمور الإلهية فإنه بعد ظهور الإسلام وانتشاره لم يكن بد من الدخول فيه رغبة في أهله ورهبة منهم، فصار هؤلاء المنافقون من المتفلسفة ونحوهم يدخلون في هؤلاء الملاحدة وأشباههم.
ولهذا ذكر
ابن سيناء أن اشتغاله بهذه الفلسفة كان لأن أباه كان من أهل دعوة
القرامطة الملاحدة الذين كان ملكهم إذ ذاك
بمصر، وكان لهم ظهور عظيم في الأرض وقصص يطول شرحها.
ولهذا لما ظهر المشركون من
الترك من
التتار وأتباعهم كان من أعظم من انضم إليهم من المنافقين هم الملاحدة، وصار مقدم الفلاسفة
الطوسي الذي كان وزيرا
للملاحدة الباطنية [ ص: 407 ] وزيرا لهؤلاء المشركين، وقدموه على الطوائف المنتسبة إلى العلم الذين يسمونهم
(الداشمندية) من جميع أصناف الناس من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، وظهر بسبب ظهوره من النفاق والزندقة في المنتسبين إلى العلم ما لا يمكن وصفه، وتصرف في أهل الإسلام تصرف الأعداء المحادين لله ورسوله بحسب الإمكان مع ما كان عليه من الفلسفة وسعة الخلق والحلم والتدبير المطابق لمذهب الصابئين المتبوعين لليهود والنصارى: التنصر والإشراك، وهو لا يظهر لكل مسلم خروجهم عن الإسلام ونفاقهم وزندقتهم، ولكن المقصود الجهمية الذين يوجبون الإسلام ويحرمون ما سواه؛ فإن هؤلاء يستعملون من الألفاظ المجملة التي يعنون بها ما لا يفهمونه الناس، ما لا يحصيه إلا الله، وذلك في الألفاظ الشرعية التي في كتاب الله تعالى وسنة رسوله إذا أظهروا الإيمان بها، وفي الألفاظ التي يثبتونها هم لبيان ما يجب في أصول الدين وصفات الله تعالى؛ فيوهمون الناس أنهم لا ينفون عن الله إلا ما قد يظهر أنه نقص
[ ص: 408 ] وعيب، وهم ينفون بها أمورا لو فهمها الناس لكفروهم، وهذا موجود في كلام أئمتهم حتى أن الأتباع يعرضون عن تلك المواضع، وأما الألفاظ الشرعية فيقرون بها بفهم منها، وهم يحرفونها إلى معان بعيدة عن مدلولها ومعناها، فإذا كانوا بهذه الحال فكيف يليق بهم أن يعيبوا أهل الإثبات على ألفاظ قليلة مجملة إذا وافقوهم عليها بأحد المعنيين دون الآخر مع أن تلك الألفاظ ليست شرعية.