الوجه الثالث والثلاثون: أن لفظ «الوهم» ، و«الخيال» في هذه المواضع التي ذكرتها تحتمل شيئين; فإن هذه الألفاظ كثيرا ما تستعمل، فيما يتوهمه الإنسان ويتخيله، مما لا يكون له حقيقة في الخارج، مثل ما يتخيل جبل ياقوت، وبحر زئبق، ونحو ذلك، ومثل ما يتوهم شخصا أنه عدوه ويكون وليه، أو أنه وليه ويكون عدوه، وأمثال
هذه الاعتقادات، التي لا تكون مطابقة، ترتسم في نفس الإنسان فيتخيلها ويتوهمها، وتكون باطلة من [ ص: 314 ] جنس الكذب: ولهذا إذا دفع نوع من هذه الأقوال يقال: هذا خيال، وهذا وهم، وقد أوهم فلان كذا، ومنه سميت الخيلاء. والمختال مختالا، لأن المختال يتخيل في نفسه من عظمته وقدره ما لا حقيقة له
والله لا يحب كل مختال فخور [الحديد: 23] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الاستعاذة
nindex.php?page=hadith&LINKID=662595«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه» فهمزه الوسوسة، ونفخه
[ ص: 315 ] الكبر، ونفثه الشعر، فإن الكبر ينفخه حتى يصير مغطى في الخيال، مع أنه حقيقة كالظرف المنفوخ، من غير أن يكون فيه شيء.
ولكن استعمال لفظ «التخيل» و«التوهم» في هذا من جنس استعمال لفظ الاعتقاد الفاسد، والظن والجهل، فيما لا يكون مطابقا، وإن كان جنس الاعتقاد قد يكون حقا وعلما، وكثيرا ما يستعمل فيما يتخيله ويتوهمه، مما يكون له حقيقة في الخارج، فيكون التخيل والتوهم، ولفظ التخيل والتوهم صادقا مطابقا، مثل ما يتخيل الإنسان في نفسه، ما أدركه بصره وغيره من الحواس، ويتوهم في نفسه ما علمه من الصفات، إذ قد يصطلح بعض أهل الطب والفلسفة، على أن التخيل للصور، والتوهم للمعاني التي فيها. ولفظ التخيل والتوهم، يعم القسمين المطابقين وغير المطابق، كما يعم لفظ الخبر للخبر الصادق والكاذب، ولفظ الكلام للحق والباطل، ولفظ الإرادة
[ ص: 316 ] للمحمود والمذموم، ولفظ الظن والحسبان للمصيب والمخطئ، ولفظ الاعتقاد للحق والباطل. فما يتخيله الإنسان ويتوهمه، قد يكون حقا أو باطلا، مثل ما يعتقده، ويظنه، ومنه سمي السحاب مخيلة، لأنه يخال فيه المطر، وفي حديث عائشة رضي الله عنها
nindex.php?page=hadith&LINKID=652967«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر، فإذا رأى المطر جلس» ومنه قول الشاعر:
أنى رأيت مخيلة لمعت وتلألأت كمواقع القطر
فهذا في التخيل.