الوجه الرابع: أن يقال إنه
ليس ظاهر قوله: [ ص: 21 ] وهو معكم [الحديد: 4]، أنه في المخلوقات، ولا أنه مختلط ممتزج بها، ونحو ذلك من المعاني الفاسدة، ولا يدل لفظ (مع) على هذا بوجه من الوجوه، فضلا عن أن يكون ذلك هو ظاهر ذلك اللفظ. وذلك أن
لفظ (مع) قد استعمل في القرآن في مواضع كثيرة، وفي سائر الكلام، ولا يوجب في عامة موارده أن يكون الأول في الثاني، ولا مختلطا به، ومعنى اللفظ وظاهره و إنما يؤخذ من موارد استعمالاته.
قال تعالى:
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا الآية [الفتح: 29]، وقال:
فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [الأعراف: 157]، وقال عن المنافقين:
ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم [الحديد: 14]، وقال تعالى:
فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين [التوبة: 83]، وقال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة: 119]، وقال:
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين [البقرة: 43]، وقال:
يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين [آل عمران: 43]، وقال:
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [التوبة: 87]
[ ص: 22 ] ، وقال: عن
نوح وما آمن معه إلا قليل [هود: 40]، وقال:
فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون [الشعراء: 119]، وقال:
قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك [هود: 48]، وقال هارون:
فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين [الأعراف: 150]، وقال:
لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا [الأعراف: 88]، وقال:
قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله [النمل: 47]، وقال:
فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده [البقرة: 249]، وقال:
إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما [النساء: 146]، وقال عن فرعون
فأغرقناه ومن معه جميعا [الإسراء: 103]، وقال:
وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون [البقرة: 14]، وقال:
وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم [البقرة: 41]، وقال:
وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه [البقرة: 213]، وقال:
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين [آل عمران: 53]، وقال:
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير [آل عمران: 146]،
[ ص: 23 ] وقال:
وتوفنا مع الأبرار [آل عمران: 193]، وقال:
فلتقم طائفة منهم معك إلى قوله:
ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك [النساء: 102]، وقال:
فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره [النساء: 140]، وقال:
ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين [المائدة: 84].
فهذه المواضع الكثيرة التي وصف الله بأن المخلوق مع المخلوق لم يوجب ذلك أن يكون الأول في الثاني ولا ذاته مختلطة ممتزجة بذاته أصلا، ولا أن يكون محايثا له، فكيف إذا وصف الرب نفسه بأنه مع عباده عموما وخصوصا يقال: إن ظاهر ذلك أن ذاته فيهم أو ممتزجة مختلطة بهم؟!
وذلك لأن
(مع) ظرف مكان، معناها المصاحبة، والمقارنة، والموافقة. فإذا قيل: هذا مع هذا، كان التقدير أنه في مكان أو مكانة لها اتصال بالثاني، بحيث يكونان مقترنين
[ ص: 24 ] مصطحبين متفقين، وهذا معنى قول من يقول من النحاة: إن (مع) للمصاحبة.
ثم ذلك الاقتران يدل على أمور أخرى تكون من لوازم الاقتران، فالله سبحانه إذا قيل: إنه مع خلقه، فمن لوازم ذلك علمه بهم، وتدبيره لهم، وقدرته عليهم.
وإذا كان مع بعضهم خصوصا كان في السياق ما يبين أنه ناصر لهم معين لهم. ولهذا جاءت المعية في كتاب الله عامة، وخاصة، لكن ذلك من خصوص التركيب والسياق، وإلا فالقدر المشترك بين مواردها هو ما تقدم.
قال تعالى:
واعلموا أن الله مع المتقين [التوبة: 36]، وقال:
فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [آل عمران: 81]، وقال:
وقال: الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة [المائدة: 12]، وقال:
إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [التوبة: 140]، وقال:
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [النحل: 128]، وقال:
[ ص: 25 ] واصبروا إن الله مع الصابرين [الأنفال: 46]، وقال:
خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير [الحديد: 4].
فأخبر أنه مستو على عرشه، وهو مع ذلك مع عباده، وكلاهما حق.
فمن تدبر القرآن علم بالاضطرار أن كونه معهم ليس ذاته فيهم، ولا أنه مختلط بهم كسائر موارد (مع).
ومن ادعى ذلك أن هذا ظاهر القرآن فقد افترى على اللغة عموما، وعلى القرآن خصوصا.