[ ص: 41 ] فصل
قال
الرازي: "الخامس:
قوله تعالى: واسجد واقترب [العلق: 19]، فإن هذا القرب ليس إلا بالطاعة والعبودية، فأما القرب بالجهة فمعلوم بالضرورة أنه لا يحصل بسبب السجود".
والكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال له: أنت مقصودك أنه لابد من مخالفة ظاهر القرآن، وليس في ظاهر الآية ذكر القرب إلى من بل قال:
واسجد واقترب [العلق: 19]، فلم يقل: واقترب إلى كذا، فيحتاج أن يقول: ظاهر القرآن فيه: واقترب إلى الله، والاقتراب إلى الله محال. وليس في ظاهر القرآن ذكر ذلك، بل هو من باب المحذوف المضمر.
الوجه الثاني: أن المقترب إليه محذوف، فلا بد من إضماره، فلا يخلو: إما أن يكون الاقتراب من الله تعالى ممكنا، أو ممتنعا.
فإن كان ممكنا كان المعنى: واقترب إلى الله، كما أن
[ ص: 42 ] المعنى: واسجد لله، وعلى هذا التقدير فلا يكون في ذلك مخالفة لظاهر القرآن، ولا لمضمره أيضا.
[وإذا] كان الاقتراب من الله [غير] ممكن، بل من الممكن الاقتراب إلى ثوابه، وكرامته، أو غير ذلك، كان هذا هو المضمر ابتداء. وعلى هذا التقدير –أيضا- فلا يكون قد خولف ظاهر القرآن، فعلى التقديرين لم نترك ظاهر القرآن. فدعواه ترك ظاهره دعوى باطلة، وهذا بين لا مندوحة عنه.
الوجه الثالث: قوله: "هذا القرب ليس إلا بالطاعة والعبودية" لا يدل على أنه مخالف للظاهر، كما لم يدل على المقترب إليه. فمن المعلوم أن المقترب إلى الله إنما يقترب بطاعته وعبادته [التي] من جملتها السجود وهو أعظم العبادات البدنية الفعلية، لكن إذا قال قائل: التقرب بالطاعة والعبودية. لم يكن قد بين المتقرب إليه ولا بين أن ظاهر
[ ص: 43 ] التقرب غير مراد.
فقوله: "القرب ليس إلا بالطاعة والعبودية" كلام لا يليق بمورد النزاع ولا يتناول المقصود.
الوجه الرابع: أن يقال: التقرب سواء كان بالعبادة [و] الطاعة، أو بغير ذلك، لا بد له من متقرب إليه، فإن القرب من الأمور المستلزمة للإضافة، فلا بد فيه من متقرب إليه، وهو لم يذكر المتقرب إليه من هؤلاء في النص، ولا في كلامه ليبين أن الظاهر [من] النص متروك، وظهر أن كلامه كلام من لم يتصور ما يقول.
الوجه الخامس: أن يقال: إن هذا التقرب إذا لم يكن إلى الله تعالى فإلى من هو؟ فإن قال: إلى الطاعة والعبادة، قيل له: الطاعة [و] العبادة نفس فعل العبد الذي هو الاقتراب، والمسئول عنه ما يتقرب إليه لا ما يتقرب به، فما هذا
[ ص: 44 ] المتقرب منه؟ وإن قال: المتقرب إليه هو ثواب الله. قيل له: ثواب الله في الآخرة هو الجنة، وفي الدنيا ما يجده من النعم.
ومن المعلوم أن الساجد لم يتقرب إلى الجنة إلا كما يتقرب إلى الله تعالى، فإنه لم يقطع ببدنه مسافة بينه وبين الجنة.
وإذا كان كذلك كان المحذور الذي فر إليه المتأول من جنس ما فر منه.
وأما ثواب الدنيا، فيقال: أولا: ليس ذلك بلازم، فمن المتقربين من لا يثاب إلا بعد الموت.
ويقال ثانيا: ليس في مجرد السجود تقرب إلى نفس الأجسام التي ينعمه الله بها، فإن تلك قد تكون غير معلومة للعبد، ولو كانت معلومة لم يكن التقرب إليها مقدورا له، بل إثباتها بقدرة الله ومشيئته فكيف يكون العبد متقربا إليها؟!.