يقال له: أكثر ما في هذا أنهم أثبتوا ما لا يعلمون حقيقته، لقيام الأدلة الشرعية عليه، وهذا لا محذور فيه، كما أثبتوا ما أخبر به من الجنة والنار، وما فيهما والملائكة وصفاتها، وهم لم يعلموا حقيقة ذلك، فهم عن معرفة حقيقة الخالق أبعد، وأما إثبات ما ليس بداخل العالم ولا خارجه، فإنه ممتنع في الفطرة البديهية، والفرق واضح بين عدم العلم وبين العلم بالعدم، فأين إثبات شيء يعلم على سبيل الجملة ولا تعلم حقيقته على التفصيل، من إثبات شيء يعلم بالبديهة انتفاؤه؟! بل لو علم انتفاؤه بالنظر لم يجز إثباته، فكيف إذا علم بالبديهة ولم يرد بثبوته خبر، ولا نقل ثبوته عن أحد من السلف والأئمة، وأما ما أثبتوه فلم يعلم انتفاؤه، لا ببديهة ولا بنظر، باتفاق عقلاء الطوائف.
والرازي من أقول الناس بذلك، صرح في غير موضع من كتبه، كالمحصل والتفسير وغيرهما، بأنه لا يجوز نفي ما لا يعلم ثبوته من الصفات، وأن الظاهريين من أصحابه ينفون ما لم يقم
[ ص: 334 ] دليل على ثبوته ورد ذلك، فإن ما لم يقم دليل بثبوته وعدمه لا يجوز نفيه ولا إثباته، وصرح بأن هذه
الصفات الخبرية، كالوجه واليد، التي أثبتها الأشعري، وغيره من أصحابه، إنما لم يثبتها لعدم دليل ثبوتها، لا لدليل عدمها، وزعم أن أدلة الشرع لا تثبتها فلا يجوز إثباتها. وأما ثبوت صفات في نفس الأمر، لم نعلمها فإنه لا ينفي ذلك، ويخطئ من ينفيه. وهؤلاء يدعون ثبوت صفاته في نفس الأمر، ثم إذا قال أحدهم: إنا لا نعلم كيفيتها أو لا نعلم كنهها وحقيقتها، كان هذا كقوله في الذات، ولو قال أقلهم علما إنا لا نعلم معناها، لم يكن عدم علمه بالمعنى، مانعا من ثبوته في نفس الأمر، فأين عدم العلم بالشيء إلى العلم بعدمه. وهذا الذي ذكره عن ظاهريي أصحابه -هو وإن كان قول
أبي المعالي الجويني وغيره، وقد نقل الإجماع فيه، وهو مما يقوله
أبو الوفاء بن عقيل ونحوه- فالصواب هو الذي ذكره
أبو عبد الله الرازي، وهو الذي عليه المحققون، وهو أحد قولي
ابن عقيل; بل هو آخر قوليه كما هو في الكفاية
[ ص: 335 ] حيث قال: