فأما
ما ثبت من الصفات بكتاب الله وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر الذي ينقطع العذر به. فإن القول به واجب؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- شهد لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله الصدق، ونزهه عن الكذب، فقال:
وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [النجم: 3-4]، وقال جل وعلا:
[ ص: 227 ] عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا [الجن: 26-27].
قال: "والكلام فيها ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم منها يحقق ولا يتأول؛ كالعلم والقدرة ونحوهما.
وقسم يتأول ولا يجري على ظاهره. وذلك كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، حكاية عن الله تعالى:
nindex.php?page=hadith&LINKID=661935 "من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا، [ومن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا] ومن أتاني يمشي أتيته هرولة". وما أشبهه لا أعلم أحدا من العلماء أجراه على ظاهره، أو اقتضى منه أو احتج بمعناه، بل كل منهم تأوله على القبول من الله تعالى لعبده، وحسن الإقبال عليه، والرضا بفعله، ومضاعفة الجزاء له على صنيعه. وكما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=654455 "لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال سبحانه: وعزتي لأقطعن من قطعك، ولأصلن من وصلك". [ ص: 228 ] ولا أعلم أحدا من العلماء حمل الحقو على ظاهر مقتضى الاسم له في موضع اللغة، وإنما معناه: اللياذ والاعتصام به، تمثيلا له بفعل من اعتصم بحبل ذي عزة، واستجار بذي ملكة وقدرة. كما روي:
nindex.php?page=hadith&LINKID=675490 "الكبرياء رداء الله".
قال: "وليس هذا الضرب في الحقيقة من أقسام الصفات، ولكن ألفاظه متشاكلة لها في موضوع الاسم، فوجب [تخريجه] ليقع به الفصل بين ما له حقيقة منها وبين ما لا حقيقة له من جملتها، ومن هذا الباب قوله تعالى:
أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله [الزمر: 56]، لا أعلم أحدا من علماء المسلمين إلا تأول الجنب في هذه الآية، ولم أسمع أحدا منهم أجراه على ظاهره، أو اقتضى منه معنى الجنب الذي هو الذات، وإنما تأولوه على القرب والتمكين. وقال
الفراء: معنى الجنب: معظم الشيء، كما يقول الرجل
[ ص: 229 ] لصاحبه: هذا قليل في جنب ما أوجبه لك.
والقسم الثالث من الصفات: يحمل على ظاهره، ويجري بلفظه الذي جاء به، من [غير] أن يقتضي له معرفة كيفية، أو يشبه بمشبهات الجنس، ومن غير أن يتأول فيعدل به عن الظاهر إلى ما يحتمله التأويل من وجه المجاز والاتساع، وذلك كاليد، والسمع، والبصر، والوجه، ونحو ذلك، فإنها ليست بجوارح، ولا أعضاء، ولا أجزاء ولكنها صفات الله -عز وجل- لا كيفية لها، ولا تتأول فيقال معنى اليد: النعمة والقوة، ومعنى السمع والبصر: العلم، ومعنى الوجه: الذات. على ما ذهب إليه نفاة الصفات.
فإن قيل: ما منعكم أن تجعلوا سبيل هذا الضرب من الصفات سبيل الضرب الأول في حملها على حقيقة مقتضى
[ ص: 230 ] الاسم؟ أو سبيل الضرب الثاني في حملها على سعة المجاز والتأويل؟ وما الذي أوجب التفريق بينه وبينها؟ وتعليق القول فيها على الوجه الذي ذكرتموه؟.
قيل منعهم من إجرائها على حقيقة مقتضى أسبابها في العرف أن ذلك يفضي بنا إلى التشبيه والتمثيل، وهو منفي عن الله.
وأما حملها على الوجه الآخر فإن الكتاب قد منع منه، لأنك إذا تأملت لفظه في الكتاب وجدته ممتنعا على تأويل القوم، غير مطاوع له، ألا تراه يقول:
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ص: 75]، بتشديد الياء في الإضافة، وذلك تحقيق التثنية، والعرب إنما تستعمل ذلك في موضع لا يجوز أن يكون [وراءه] ثالث، كما يقول الرجل: رد علي درهمي، إذا لم يكن عندي غيرهما، وكما قال سبحانه مخبرا عن
شعيب أنه قال
لموسى -عليه السلام-
أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين [القصص: 27] إذ لم يكن له غيرهما. وإذا تحققت التثنية لم
[ ص: 231 ] يجز صرفها إلى النعمة، ولا إلى القوة؛ لأنه ليس تخصيص التثنية في نعم الله تعالى ولا في قوته معنى يصح؛ لأن نعمه أكثر من أن تعد أو تحصى، قال الله تعالى:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها [إبراهيم: 34]، فدل ذلك على
تحقق خلق الله آدم -عليه السلام- بيديه اللتين هما صفتان له، من صفات ذاته، كما قال في تكذيب اليهود عند قولهم:
يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء [المائدة: 64]، [مستقصا] ذكر اللفظ الموضوع للتثنية [فدل] ذلك على تحقيق ما قلناه.
وأيضا فإن معنى اليد لو كان النعمة والقوة لوجد إبليس متعلقا من هذه الجهة لما امتنع من السجود
لآدم -عليه السلام- فيقول: وما في خلقك إياه بنعمتيك أو قوتيك مما يوجب علي أن أسجد له، لقد خلقتني بنعمتيك وقوتيك وأنا مساو له في خلقك إيانا جميعا بيديك اللتين هما النعمة والقوة؛ لأنه لا يخفى على أحد من ذوي العقول أن الله –سبحانه- خلق
[ ص: 232 ] الأشياء بقوته وقدرته، فلما لم يتعلق إبليس بهذه الحجة، وأعرض عنها إلى قوله:
أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ص: 76]، كان فيه أوضح دليل على أنه علم تخصيص الله
لآدم -عليه السلام- في خلقه إياه بمعنى لم يشاركه إبليس ولا غيره من الملائكة فيه، وليس لذلك التخصيص وجه غير ما بينه الله -عز وجل- في قوله تعالى:
لما خلقت بيدي [ص: 75]، على ما نطق به التنزيل وشهد بصحته التأويل، والله أعلم.
وأيضا فإن نعم الله تعالى مخلوقة
كآدم، لا فرق بينهما في سمة الخلق، فكيف يخبر عن خلق مخلوق بمخلوق؟! وأي فائدة في ذلك إذا كان هكذا؟.
وأيضا
فإن الله -عز وجل- لا يوصف بالقوة عند نفاة الصفات، فكيف يثبتون له في تأويل هذه الآية، ومن مذهبهم أن القوة عن الله منتفية، وقد زعم بعضهم أن معنى النعمتين هنا الماء والطين؛ لأنه خلق
آدم -عليه السلام- منهما، وهذا تأويل ساقط، لا معنى له، ولو أراد ذلك لقال: لما خلقت من
[ ص: 233 ] يدي، ولم يقل بيدي، كما يقول القائل: صنعت هذا الكوز من الفضة أو النحاس، وطبعت هذا السيف من الحديد، ونسجت هذا الثوب من الكتان، ولا يقول في شيء من هذا بالباء؛ لأن الباء حرف للإلصاق، وحرف لتعدية الفعل".
قال: "وكذلك القول في الوجه والبصر، وسائر الصفات التي تذكر في الباب، وذلك أنه تعالى لما قال:
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن: 27]، فأضاف الوجه إلى الذات، وفي حكم اللغة أن المضاف غير المضاف إليه، وأن إعراب النعوت تابع لإعراب المنعوت. فلو كان الوجه
[ ص: 234 ] ههنا صلة ولم يكن صفة للذات لقال ذي الجلال والإكرام، فيكون نعتا للذات، فلما رفع فقال: ذو الجلال والإكرام علم أنه نعت للوجه، وصفة للذات، ولو كان معنى البصر العلم، كما تأوله هؤلاء القوم لذهب فائدة قوله تعالى:
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار [الأنعام: 103]، لأنه قد نفى عن خلقه شيئا أثبته لنفسه دونهم. وقد احتج القوم بهذه الآية في أن الله تعالى لا يرى بالأبصار في الدنيا والآخرة، فلو كان معناه يعلم بالأبصار لم يكن بينه وبين خلقه في ذلك فرق؛ لأنهم يعرفون الله ويعلمونه، فما الذي أثبته لنفسه ونفاه عن خلقه إذا إذا كانت الأبصار لا تراه ولا يراها نظرا؟!.