الوجه الثاني: أن
الألفاظ التي يسميها النحاة ظروفا يتنوع تعلقها بمعاني الأسماء والأفعال التي يسميها النحاة مظروفة، بحسب حقائق تلك المظروفات، وهذا الموضع من لم يهتد لهذا التنوع فيه وإلا ضل، كما ضل كثير من الناس، حتى وجدوا ما يسميه أهل اللغة ظروفا وأوعية من شأنه ألا يكون [هو] المظروف الموعى فيه كالمائعات في الآنية، وكالجامدات فيما يحيط بها من الملابس، والمساكن، وغير ذلك، ورأوا النحاة يسمون ألفاظا ظروفا فاعتقدوا أن معنى هذه في اللغة أن تكون محيطة بالمظروف، حاوية له، كما يحيط ظرف اللبن، والخمر، والماء، بذلك، ويقول أحدهم: (في) للظرفية، فالظرف يكون حاويا للمظروف، وهذا غلط، فإن العرب لم يقولوا (في) للظرفية حتى يجعل معنى أحد اللفظين في كلامهم هو معنى الآخر؛ لأن الأصل عدم الاشتراك، بل نطقوا بهذه
[ ص: 254 ] الأدوات في مواضعها، مستوفين لتعلقها بما تعلقت به، بحسب تلك الحقائق، وإن كان يكون بين تلك المعاني قدر مشترك، لكن ذلك القدر المشترك مطلق لا وجود له في الخارج، بل الذهن يجرده، إذ هم لم يتكلموا بهذه الأدوات مطلقة قط.
ثم إن النحاة رأوا ذلك المعنى المشترك فيه نوع مشابهة لما تسميه العرب (من الأجسام ظرفا فسموه ظرفا، حقيقة عرفية خاصة اصطلاحية ليست هي اللغة التي تكلم بها العرب)، وجاء بها القرآن، والحديث، وهكذا سائر اصطلاحهم، مثل الفاعل، والمفعول، والحال، والصفة، والتمييز، والمعرب والمبني، والمبتدإ، والخبر، ونحو ذلك، فإن العرب لا تفرق بين الجملة الإسمية والفعلية في تسمية كل منهما خبرا [صادقا أو كاذبا] ولا يسمى المفرد الذي لا يستقل بالإفادة خبرا، فتسمية المفرد الذي هو أحد ركني الجملة [خبرا] وتخصيص ذلك بالجملة الإسمية دون الفعلية بل تخصيص ذلك بالجزء الثاني منها دون الأول هذا لفظ النحاة واصطلاحهم، وإن كان بينه
[ ص: 255 ] وبين اللغة الأصلية نوع تعلق، يجعله بالنسبة إليها مجازا. كما سمع بعض الأعراب قوما من النحاة يتحدثون باصطلاحهم فقال: قوم يتكلمون في كلامنا، بغير كلامنا، ليصلحوا به كلامنا.
وكذلك اسم الفاعل هو الاسم الذي أسند إليه الفعل، ونحوه، متقدما عليه، مثل: قام زيد، وأقام زيد، ونحو ذلك، ولا يسمون الاسم الظاهر في قولك: زيد قائم فاعلا بل مبتدأ، ومن المعلوم أن لفظ الفاعل ليس لمسماه في اللغة لفظ، ولا يختص إذا جعل اسما لاسم الفاعل عن قديم أو آخر، بل هذا اصطلاح احتاجوا إليه لبيان قوانين اللغة العربية في نحوها وتصريفها، وهو من أنفع الأشياء في معرفة الأدلة السمعية، واللغة العربية، لكن ينبغي أن يعرف اصطلاح اللغات ليحمل كلام كل متكلم على لغته، وعادته، ومثال ذلك -في الأدوات التي يسميها النحاة ظروفا- أنهم يقولون: رأيت فلانا في داره، ويقولون: رأيت فلانا في المرآة، أو الماء، ويقولون: رأيت فلانا في المنام. فلفظ (في) التي يسميها النحاة ظرف مكان موجود في المواضع الثلاثة، مع العلم بأنه ليس المعنى الظاهر ولا حقيقة اللفظ في قولهم: في البيت، مثل قولهم: في المرآة،
[ ص: 256 ] (ولا مثل قولهم: في المنام، وكل من الألفاظ الثلاثة حقيقة في معناه، وقوله رأيته في المرآة) حقيقة، ومعنى ظاهر، لا مجاز، ولا خلاف الظاهر، وكذلك قوله: رأيته في المنام معناه ظاهر وهو -أيضا- حقيقة هذا اللفظ، مع العلم بأن ظاهر اللفظ الأول أن ذاته قد كانت في داره، وليس ظاهر اللفظين الآخرين أن ذاته كانت في المرآة ولا في نفس الرائي، (ومع العلم بأن كونه مرئيا في المرآة، ووجوده في المرآة ليس مساويا لكونه مرئيا في المنام، ولا لوجوده في نفس الرائي) وذلك لاختلاف حقائق المحال، وتعلق الحال بها التي هي معاني لفظ الظرف، فليست الدار كالمرآة ولا المرآة كنفس الرائي، ولا وجود زيد في الدار كوجوده في المرآة، أو نفس الرائي.
إذا عرف هذا فلفظ (عند) هي من الألفاظ التي يسميها النحاة ظرف مكان، فتتنوع دلالتها بتنوع معنى الاسم أو الفعل الذي يسمونه مظروفا، ويتنوع -أيضا- بتنوع ما يضاف
[ ص: 257 ] إليه من الظروف، وهي في نفسها اسم ليست حرفا، بخلاف (في) فإنها حرف، وإذا كان كذلك فهم يقولون ويستعملون ذلك في بعض الأعيان القائمة بنفسها كقولهم: فلان أو المال عند فلان. كما في مثل قوله تعالى:
وعندهم قاصرات الطرف عين [الصافات: 48]، وقوله:
أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون [الطور: 37]، ومن هذا قوله تعالى:
إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر [القمر: 54-55]، وقوله:
إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون [الأعراف: 206]، وقوله:
وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون [الأنبياء: 19]، وقوله:
فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون [فصلت: 38]، وقوله:
اذكرني عند ربك [يوسف: 42]،
أعنده علم الغيب [النجم: 35].
ويستعملون ذلك -أيضا- فيما يقوم بغيره من الصفات، والأفعال، كقوله:
اذكرني عند ربك [يوسف: 42]، وقوله:
أعنده علم الغيب فهو يرى [النجم: 35]، وقوله:
أم عندهم الغيب فهم يكتبون [الطور: 41].
ومعلوم أن الذي عنده هو قائم بنفسه، وكذلك الذكر
[ ص: 258 ] الذي عند الملك قائم بالذاكر، وهذه الألفاظ على ظاهرها، وهي حقيقة كالأولى. بل
النحاة يقولون: إن الظرف لا يتعلق في نفس الأمر إلا بفعل مذكور، أو محذوف، فإذا علق بالأعيان أو الصفات في خبر المبتدإ أو الصفة أو الحال كان العامل فيه فعلا عاما أو اسم فاعل عام. فإذا قيل: زيد في البيت كان التقدير استقر، أو مستقر في البيت، أو كان أو حصل، أو وجد أو كائن أو حاصل، ونحو ذلك.
ويقولون: إن ذكر عامل الظرف في خبر المبتدإ شريعة منسوخة. ومحققوهم يقولون: لم يكن هذا شريعة قط، فإن الناطقين باللغة لم ينطقوا بهذا قط، وإنما هو موجب بالقياس، لكن عدل عن ذكره لوضوح المعنى بدونه، وعدم الحاجة إليه، فإن مقصودهم بذلك طرد القياس في أن الظرف إنما ينتصب بفعل مذكور أو مقدر، ومن الناس من تنازع في ذلك. وفي هذا من البحوث ما ليس هذا موضعه.
ويقولون -أيضا- فلان عند فلان عالم، أو عدل، أو مسلم، وهذا عنده جائز أو محرم، وهذا عنده محبوب أو مكروه، وعظيم، أو حقير، ونحو ذلك. ومنه قوله تعالى عن
[ ص: 259 ] [جبريل]: إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين [التكوير: 19-21]، وقوله:
وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار [ص: 47].
وهذا نظير كون العلم عند العالم، فإن الذي عنده من قبل ما في نفسه من الاعتقاد والإرادة وما يتبع ذلك، فإذا اعتقد أنه عالم أو عدل كان ذلك الاعتقاد عنده، فإذا أحبه وعظمه كان عند محبته وتعظيمه، وكذلك بالعكس. ومعلوم أن ذلك إنما صار [ظرفا] لفظيا؛ لأن المعلوم المحبوب ترتسم صورته العلمية في النفس، والمحبوب المعظم لا بد أن ترتسم صورته في النفس فيقال: فلان عالم عندي [فيجعل الظرف ظرفا] للجملة، وهي [الاسمان] والمعنى ظاهر معروف أن المظروف إنما هو اعتقاد علمه، لا نفس ذاته ولا نفس علمه؛ وذلك
[ ص: 260 ] لأن الخبر بقوله: عالم، أفاد ثبوت علمه بذكر الظرف بعد ذلك [أي هذا] الثبوت، وهذه النسبة التي دل عليها اللفظ هي عندي في نفسي، وأما كونها في الخارج فذلك مقام آخر، وكذلك إذا قيل إنه محبوب، أو معظم عندي، فإن التقييد بالظرف دل على أن هذه المحبة وهذه العظمة في نفسه، فإذا كان معنى الجملة يقوم بالنفس وذلك مسبوق بقيام مفرديها فمعنى المفرد -أيضا- يقوم بالنفس، فيقال: فلان لا يزال عندي. أي في نفسي، فهو مثاله وصورته العلمية، ويحصل الفرق بين كون المظروف ذاته في الخارج أو [المظروف] صورته علما وحبا، ونحو ذلك في النفس بحسب الظرف والمظروف، فإذا كان الخطاب عن ميت أو غائب مثل أن يقول القائل إذا اجتمع بمن كان غائبا عنه: والله ما زلت عندنا. كان ظاهر هذا اللفظ ما زلنا نستحضرك بقلوبنا، ونذكرك بألسنتنا، ونحو ذلك. وقد يقال في مثل ذلك: ما زلت معنا، إذا كانوا
[ ص: 261 ] مستحضرين له، ذاكرين له، وإن لم يشعر هو بذلك. ويقال: فلان ما عنده إلا الله ورسوله.