الوجه الثامن والعشرون: قوله:
«وهو سبحانه واجب الوجود لذاته، وذلك يقتضي أن يكون غير قابل للزيادة والنقصان» يقال له: اقتضاؤه لهذا كاقتضائه لعدم الانفصال ولعدم الدخول والخروج، ولا فرق.
[ ص: 584 ] الوجه التاسع والعشرون: أنه لم يذكر دليلا على أن وجوب الوجود ينافي قبول الزيادة والنقصان، بل أبدله شاهدا من حججه العقلية.
الوجه الثلاثون: قوله: «واحتج قوم من المشبهة بهذه الآية في إثبات أنه تعالى جسم، وهذا باطل؛ لأنا قد بينا أن كون أحدا ينافي كونه جسما فمقدمة هذه الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى، ولأن الصمد بهذا التفسير صفة للأجسام الغليظة، وتعالى الله عن ذلك».
يقال له: هذا من باب المعارضة؛ لم تنف دلالتهم، ولكن ادعيت أن ذلك معارض بما في السورة من نفي ذلك، ولم تبين أن هذه الصمدية منتفية عنه، والشيء لا يجوز نفي دلالته لمجرد دعوى المعارضة إلا إذا تبين أن دلالة المعارضة أقوى وأنت لم تبين هذا.
[ ص: 585 ] الوجه الحادي والثلاثون: أن يقال: قد تقدم أن الاسم الأحد أو الصمد لا يدل على ما ادعاه بوجه من الوجوه حتى ظهر بطلان ما قاله بطريق الضرورة المعلومة من لغة العرب وتفسير القرآن، فبطلت المعارضة.
الوجه الثاني والثلاثون: أن يقال: هب أن ما ذكرته دال، وما ذكروه دال، فينبغي النظر في الدلالتين؛ إذ هم يقولون: السورة دلت على ثبوت قولنا، فينتفي قولك، وأنت تعكس ذلك، فإذا صحت الدلالتان فإنه ينبغي الترجيح.
ومن المعلوم أن
تفسير الصمد بأنه الذي لا جوف له هو مما تواتر نقله عن الصحابة والتابعين، وشهدت له اللغة، وروي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما كون الجسم لا يوصف بأنه أحد أو واحد فأمر لم يقله أحد يعتمد عليه، بل نص القرآن ينفيه، كما ذكرناه فيما تقدم، مثل قوله تعالى:
وإن كانت واحدة فلها النصف [النساء: 11] وقوله:
أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب [البقرة: 266]
[ ص: 586 ] وقوله:
وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء [النحل: 76] وإذا كان كذلك كانت دلالة المنازع ثابتة بتفسير السلف ودلالة اللغة، وبهذين الطريقين يثبت التفسير، وتفسيره لم يقله أحد من المفسرين ولا من أهل اللغة، بل لغة القرآن وغيره صريحة في نفي تلك الدلالة.
الوجه الثالث والثلاثون: قوله: «لأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام الغليظة».
يقال له: الوصف بكون الشيء صمدا ومصمتا لا يوجب غلظه ولا رقته فإن من الأشياء الرقيقة ما يكون مصمتا، مثل بعض الزجاج والبلور وغير ذلك.
الوجه الرابع والثلاثون: أن كون اللفظ يدل على الغلظ في اللغة لا يمنع دخوله في أسماء الله تعالى؛ فإنه قال تعالى:
إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات: 58] فسمى نفسه المتين، والمتين في دلالته على الغلظ أقوى من الصمد.
الوجه الخامس والثلاثون: قوله: «وتعالى الله عن
[ ص: 587 ] ذلك».
فلا ريب أنه يتعالى عن أن يكون مثلا للأجسام الغليظة كما أنه يتعالى عن مماثلة الأجسام الرقيقة، فتخصيص أحدهما بتعالي الله عنه يقتضي أنه غير متعال عن الآخر، وأن له في ذلك اختصاصا، وهذا باطل.
الوجه السادس والثلاثون: إن الأجسام الغليظة أقوى وأصلب من الأجسام الرقيقة، وهي أقرب إلى صفة الكمال، فتنزيه الرب عن الأكمل دون الأنقص قلب للحق.
الوجه السابع والثلاثون: أن وصفه بأنه متين وأنه صمد وإن تضمن معنى الغلظ والقوة فإنه يثبت لله تعالى على الوجه الذي يليق به، لا يثبت له ما يختص بالمخلوق في سائر أسمائه وصفاته، مثل الرحيم والصبور والقدير وسائر أسمائه وصفاته؛ إذ هو في جميع أسمائه لا يتصف بما يختص بالمخلوق بل كل كمال في المخلوق فإنه يثبت له ما هو أكمل منه، وكل نقص فإنه أحق بالتنزيه منه من كل مخلوق.
[ ص: 588 ] وهذا الذي ذكره المؤسس من احتجاج المشبهة باسمه الصمد «بأنه الذي لا جوف له» على قولهم بأنه جسم، هو من الحجج المشهورة في كلام المتقدمين والمتأخرين ونفاة الجسم ومثبتته، كانوا يجعلون ذلك من حجج المثبتة، كما ذكره المؤسس.
ثم منهم من ينفي هذا التفسير، ولا يذكر في تفسير الصمد إلا أنه السيد فقط، كما فعل
أبو حامد في شرحه
[ ص: 589 ] للأسماء الحسنى.
ومنهم من يذكر القولين ويرجح تفسيره بأنه السيد إما لاعتقاده أن ذلك هو الموافق للغة، أو لنفي ذلك المعنى، كما رجح
nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي أن الصمد الذي يصمد إليه في الأمور ويقصد في الحوائج والنوازل، وأصل الصمد القصد، يقال للرجل: اصمد صمد فلان، أي: اقصد قصده. قال الخطابي: وأصح ما قيل فيه ما يشهد له الاشتقاق.
وذكر
أبو بكر بن الأنباري في كتاب الزاهر أن هذا قول أهل اللغة أجمعين، وقال
القشيري في شرح الأسماء هو
[ ص: 590 ] الصحيح.
قلت: دعوى المدعي أن هذا التفسير هو الموافق للغة والاشتقاق دون الأول قالوه بمبلغ علمهم لما سمعوا الأبيات المنشدة، والذي قالوه باطل قطعا، بل تفسير الصمد يقتضي الاجتماع وعدم التفرق في ذاته، وكونه لا جوف له أولى باللغة والاشتقاق من كونه صمدا في صفاته، أي حليما أو معطيا، بحيث يعطي الناس حتى يصمدوا إليه؛ لأن أصل الصمد الاجتماع، كما تقدم، فثبوت هذا المعنى في ذات المسمى أولى من ثبوته في صفاته، وأيضا فإن كل ما يذكر من ثبوت معنى الصمد في صفاته أو أفعاله وأفعال الخلق معه فهو مستلزم ثبوت المعنى في ذاته أيضا، وإن كان ثبوت المعنى في ذاته يستلزم ثبوت صفاته، فالتلازم ثابت من الطرفين لكن جهة الذات مقدمة على غيرها، ثم كيف يقال عكس غيره، وهذا هو التفسير الثابت عن أئمة الصحابة والتابعين بالنقل المتواتر الذي نقله أئمة الأمة.
[ ص: 591 ] وذاك وإن كان قد قالوه فقد قالوه على قلة، ليس قولهم في الكثرة والقوة مثل هذا، فكيف يكون ما تواتر عن العالمين بتفسير القرآن وأسماء الله تعالى العالمين بلغة العرب أبعد في لغة العرب من ذاك؟! هذا لا يقوله من يقدر قدر السلف، ثم كيف إذا كان هذا التفسير هو المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
وأما احتجاج المشبهة للجسم به فمن المشهور عند المتكلمين حتى ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري في (مقالات مثبتة الجسم) وهذا ما نقله الأشعري في (كتاب المقالات).
فقال: «وقال
داود الجواربي ومقاتل بن سليمان: إن الله جسم، وإنه جثة على صورة الإنسان، لحم ودم وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء، من يد ورجل ولسان ورأس وعينين، وهو مع
[ ص: 592 ] ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره».
قال: وحكي عن
داود الجواربي أنه كان يقول عن الباري: «إنه أجوف من فيه إلى صدره، ومصمت ما سوى ذلك».
قال الأشعري: «وكثير من الناس يقولون: هو مصمت، ويتأولون قول الله «الصمد» المصمت الذي ليس بأجوف».