فيقال لهم: هذه الأمور التي تضمنها هذا الكلام وهو لازم الجهمية الذين يقولون: إن الله عز وجل ليس فوق العرش، بل هو في كل مكان.
من أن الدعوة إلى الله: مكر بالمدعو، لأنه في النهاية كما هو في البداية، من أن صاحب السلوك إلى الله بالطريق المستقيم مائل خارج عن المقصود، صاحب خيال إليه غايته فله من وإلى يسير من شيء إلى شيء، والحائر الذي يدور ولا يبرح ولا يذهب إلى شيء غير ما هو فيه فله الوجود الأتم، وهو المؤتى جوامع الكلم والحكم، وأن الدعوة إلى الله ليست إلى هويته، بل إلى نسب وإضافات إليه، هي التي جعلها هذا أسماء.
فإن هؤلاء
الاتحادية وإن كانوا
جهمية، فلهم فروع أقوال انفردوا بها عن غيرهم من الجهمية، ولكن نذكر ما يلزم غيرهم
[ ص: 211 ] من الجهمية، فهذه المقالات ونحوها لا تخلو إما أن يقال هي حق، وهي معنى القرآن، كما ذكره هذا أو لا.
أما الأول فإنه من أظهر الأمور كفرا وضلالا وتحريفا واتحادا وتعطيلا، فكل من فيه أدنى إيمان وعلم وفهم مقصودهم يعلم علما ضروريا أن الذي قالوه هو من أعظم الأقوال منافاة لما جاءت به الرسل، وأن الله أمر أن يسأل أن يهدينا الصراط المستقيم، ومدح الصراط المستقيم في غير موضع، وذم الحائر كما في قوله تعالى:
قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران [الأنعام: 71]. وأن الله بعث الرسل بالدعوة إليه نفسه، وأن ذلك ليس بمكر بالعباد، بل هدى لهم، وأنه ليس المدعو في ابتداء إجابة الرسل كما يكون إذا انتهى إلى ربه أو لاقاه، وأن من عبد الأصنام أو شيئا من المخلوقات فهو كافر مشرك باتفاق الرسل، كما قال تعالى:
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [الزخرف: 45].
وقال:
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء: 25]. وقال تعالى:
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [النحل: 36].
[ ص: 212 ]
وعلى قول
الاتحادية ما ثم طاغوت، إذ كل معبود فعابده إنما عبد الله عندهم، ومن المعلوم بأعظم الضرورات أن عباد يغوث ويعوق ونسرا وسائر الأوثان لم يكونوا عابدين لله، وكانوا مشركين أعداء لله، لم يكونوا من أولياء الله، وهذا وأمثاله كثير، ليس هذا موضع بسطه.
فهؤلاء
الجهمية النفاة إما أن يوافقوا هؤلاء أو لا، فإن وافقوهم كان كفرهم أظهر من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب، وكان جحدهم للمعارف الكثيرة الضرورية أعظم من جحد السوفسطائية،
[ ص: 213 ] وإن خالفوهم -وهو قولهم- قيل لهم: إذا قلتم: إن الله لا يتقرب إليه نفسه أحد، ولا يدعى إليه نفسه أحد، وليس بين العبد وبينه نفسه طريق مستقيم ولا مستدير، وأنه لا يذهب إليه نفسه أحد، وإنما ذلك كله عندكم يعود إلى بعض مقدوراته ومخلوقاته، مثل ما يخلقه مما يرحم به العباد، فإليها يذهب وإليها يسير.
فإذا قلتم هذا لم يكن لكم طريق إلى إفساد قول أولئك الاتحادية، إذ قولكم من جنس قولهم، إلا أنهم توسعوا في ذلك فجعلوا كل من دعا إلى شيء أو وصل إليه أو سلك إليه فإنما دعا إلى الله ووصل إليه وسلك إليه، وأنتم تخصون ذلك ببعض المخلوقات دون بعض، فالفرق بينكم وبينهم فرق ما بين العموم إلى الخصوص، ومشابهتكم لهم أقرب من مشابهة النصارى لهم، ولهذا كان يقول صاحب الفصوص: إن النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا، إذ عنده أن جميع
[ ص: 214 ] الموجودات هي بمنزلة ما يقوله النصارى في
المسيح عليه السلام.
[ ص: 215 ]