الوجه الثامن عشر: أن هذا
القول في تأويل القرآن ومعناه يضاهي قول المشركين في تنزيل القرآن ولفظه ومعناه، ولا ريب أن المقصود من الألفاظ هو المعنى، فمن وافق المشركين في معاني القرآن على ما قالوه، فإنما آمن بلفظ فقط، فهو منافق يظهر الإسلام بلفظه به دون قلبه، من جنس الذين قال الله تعالى فيهم إنهم يقولون للرسول:
نشهد إنك لرسول الله [المنافقون: 1]. قال الله تعالى:
والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون [المنافقون 1]. ومن جنس الذين قالوا:
آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون [ ص: 502 ] [البقرة: 8-13].
وإذا لقوا الآيات ونظائرها، وذلك أن المشركين وكل من كذب لما كذبوا بأن القرآن منزل من الله، وكذبوا الرسول بما جاء به، حادوا واختلفوا ماذا يقولون في الكتاب والرسول، وقالوا أقوالا متناقضة يظهر فسادها لكل من تأملها، وآخرون منهم لما رأوا هذه الأقوال متناقضة أمسكوا عنها فلم يقولوا شيئا منها، لكنهم اقتصروا على تكذيب القرآن والرسول لما زعموا أنه قام عندهم أدلة تدل على أنه ليس برسول الله، ولا القرآن منزل من الله تعالى، فعملوا بموجب تلك الأدلة، ثم بعد ذلك قالوا: فليكن أي شيء كان، وليس علينا تعيين ما هو، فهكذا الذين جوزوا معاني القرآن التي أرادها الله تعالى ورسوله بالكتاب والسنة، صاروا في القرآن والحديث حزبين: حزبا يحملون كلام الله ورسوله على معان أخر يظهر للمتأمل أن الله لم يردها، ولا هي معنى كلامه، وقال آخرون: يكفينا أن تنفى تلك المعاني، وبعد
[ ص: 503 ] هذا فليدل القرآن والحديث على أي شيء دل، ليس علينا أن نعرف ما دل عليه، فهم مشتركون في جحد المعاني التي أرادها الله تعالى ورسوله، ثم ادعى بعضهم معاني أنها هي المرادة، والاعتبار بين أنها ليست مرادة، فالذي أراده الله تعالى ورسوله جحدوه، وقالوا: إن الدليل عندنا بنفيه، والذي حملوا عليه كلام الله ورسوله لم يرده الله تعالى ولا رسوله، فقال آخرون: نحن نوافقكم على جحد ما جحدتموه من تلك المعاني، وأما ما فسرتم به القرآن والحديث فقد ظهر بطلانه أيضا، فنحن نعرض عن تدبر القرآن والحديث وفهم معناه، ولا يضرنا بعد ذلك دلالته على أي شيء دل، فهؤلاء يأمرون بالجحد لمعاني التنزيل، وبالجهل البسيط في تفسير القرآن وتأويله، وأولئك يأتون بالجهل المركب في التفسير والتأويل، فهؤلاء
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب [النور: 39]. وأولئك كظلمات
بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور [النور: 40].
[ ص: 504 ]
وأهل العلم والإيمان الذين أوتوا القرآن والإيمان هم كما قال الله تعالى:
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم [النور: 35]. فإن هذا النور هو نور الإيمان والقرآن جميعا، كما قال تعالى:
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور [الشورى: 52-53]. وبذلك فسره السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم رضي الله عنهم، كما روى
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد، حدثنا
عبد الله بن يوسف، عن
أبي [ ص: 505 ] جعفر، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14354الربيع بن أنس، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11873أبي العالية، عن
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب في قول الله تعالى:
الله نور السماوات والأرض [النور: 35]. قال: بدأ بنور نفسه فذكره، ثم ذكر نور المؤمنين فقال:
مثل نوره أي: مثل نور المؤمن، قال: ولذلك كان
أبي يقرؤها: (مثل نور المؤمن) قال: هو عند جعل الإيمان والقرآن في صدره. قال: المشكاة، قال: صدره.
فيها مصباح فالمصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره، قال:
المصباح في زجاجة قال: فالزجاجة قلبه، قال:
الزجاجة كأنها كوكب دري قال: فقلبه بما استنار بالقرآن والإيمان كأنه كوكب دري. يقول: يضيء
يوقد من شجرة مباركة زيتونة [ ص: 506 ] قال: الشجرة الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له.